نص السؤال

إننا نسلِّمُ بأن المعجِزاتِ موجودةٌ، وأن انخرامَ العاداتِ أمرٌ ممكِنٌ، غيرَ أن ذلك لا يَلزَمُ منه أن يكونَ الفاعلُ لها هو اللهَ تعالى؛ 

فقد تكونُ تلك المعجِزاتُ حادثةً بسببِ ما يميِّزُ المدَّعِيَ للنبوَّةِ مِن خواصَّ نفسيَّةٍ ومِزاجيَّةٍ مختلِفةٍ عن غيرِهِ مِن البشَر، وقد يكونُ ساحرًا لدَيْهِ قُدْرةٌ على التأثيرِ في خواصِّ الأشياء، 

أو تكونُ واقعةً بسببِ الجنِّ والشياطين، أو بسببِ الملائكة، أو بسببِ تأثيرِ الأفلاكِ والنجوم؛ وكلُّ هذه المؤثِّراتِ احتمالاتٌ قائمةٌ، ولا دليلَ على بطلانِ واحدٍ منها؛

 فبطَلَ حينئذٍ الاعتقادُ بأنه لا فاعلَ لتلك المعجِزاتِ إلا اللهُ.

المؤلف: باحثو مركز أصول

المصدر: مركز أصول

عبارات مشابهة للسؤال

المعجِزاتُ ليست مِن فعلِ اللهِ تعالى.

الجواب التفصيلي

هذه الشبهةُ مبنيَّةٌ على اختزالٍ شديدٍ لحقيقةِ المعجِزة، وتحريفٍ ظاهرٍ لما يقرِّرُهُ المؤمِنون بالنبوَّةِ مِن خواصِّ معجِزاتِ الأنبياء؛

 بناءً على ما عَلِموهُ مِن حقيقتِها، والجوابُ عنها يحتاجُ إلى كشفِ الالتباسِ عما يَفصِلُ آياتِ الأنبياءِ عن سائرِ خوارِق العادات؛ وبيانُ ذلك تفصيلًا مِن وجوه:

1- الاحتمالاتُ المذكورةُ في السؤالِ احتمالاتٌ عقليَّةٌ مجرَّدة، والاحتمالاتُ العقليَّةُ المجرَّدةُ لا تَقدَحُ في الأمورِ الوجوديَّةِ الثابتة:

فهذه طريقةٌ باطلةٌ في بناءِ المعرِفةِ، ومسالكِ الاستدلال.

فالبحثُ ليس في مجرَّدِ الإمكانِ العقليِّ، وإنما في التحقُّقِ الخارجيِّ؛ لأن الإمكانَ العقليَّ لا يَكْفي في إثباتِ وجودِ شيءٍ في الخارجِ؛

 فكثيرٌ مِن الممكِناتِ في العقلِ يمتنِعُ أن تُوجَدَ في الخارجِ لموانعَ وجوديَّةٍ.

ومثالُ الأمورِ الممكِنةِ في العقلِ، التي يمتنِعُ أن تُوجَدَ في الخارجِ مِن جهةِ العادةِ: «بحرٌ مِن زِئبَقٍ»؛ فهذا شيءٌ لا يمتنِعُ تصوُّرُهُ عقلًا، لكنَّ وجودَهُ في الخارجِ والواقعِ غيرُ ممكِنٍ عادةً.

وبناءً عليه: فالتشكيكُ في الأمورِ الوجوديَّةِ لا بدَّ فيه مِن إثباتِ الامتناعِ الخارجيِّ؛ وهذا ما لم يقُمْ به صاحبُ هذا الاعتراض.

2- المعجِزةُ التي تكونُ دليلًا للنبيِّ لا بدَّ أن تكونَ خارجةً عن مقدورِ المخلوقِينَ مِن الإنسِ والجِنّ، ولا تدخُلُ ضِمنَ دائرةِ ما يَقدِرون عليه؛ فهي مِن الأحداثِ التي لا يَقدِرُ عليها إلا اللهُ تعالى:

فلا بدَّ في آياتِ الأنبياءِ مِن أن تكونَ - مع كونِها خارقةً للعادةِ - أمرًا غيرَ مُعتادٍ لغيرِ الأنبياء؛ بحيثُ لا يَقدِرُ عليه إلا اللهُ تعالى الذي أرسَلَ الأنبياءَ، ليس مما يَقدِرُ عليه غيرُ الأنبياء، لا بحِيلةٍ، ولا عزيمةٍ، ولا استعانةٍ بشياطينَ، ولا غيرِ ذلك؛ مثلُ ناقةِ صالح.

 ومِن خصائصِ معجِزاتِ الأنبياءِ: أنه لا يُمكِنُ معارَضتُها.

فإذا عجَزَ النوعُ البشَريُّ غيرُ الأنبياءِ عن معارَضتِها، كان ذلك أعظَمَ دليلٍ على اختصاصِها بالأنبياء؛ بخلافِ ما كان موجودًا لغيرِهم؛ فهذا لا يكونُ آيةً البتَّةَ.

فالإخبارُ بالمغيَّباتِ المستقبليَّةِ لا يُمكِنُ لإنسٍ، ولا جنٍّ، ولا ملائكةٍ - مهما كانت عظَمةُ القوَّةِ التي لدَيْهم - أن يأتوا بمِثلِها؛ لكونِ ذلك مِن خصائصِ الخالقِ، ومِن مقتضَياتِ ربوبيَّتِهِ للكون؛ فليست هي في مقدورِ الإنسِ، ولا الجِنِّ، بل ولا الأنبياءِ أنفسِهم؛ وإنما يُظهِرُها اللهُ تعالى على أيدي الأنبياءِ؛ تصديقًا لهم وتأييدًا.

وكذلك الحالُ في خروجِ الناقةِ مِن الهضَبةِ، وانقلابِ العصا إلى حيَّةٍ تَسْعى، وانفلاقِ البحرِ إلى طُرُقٍ متعدِّدةٍ يابسةٍ، وانشقاقِ القمَرِ، وغيرِها مِن المعجِزاتِ الكبرى التي تقَعُ على أيدي الأنبياء، ليست مما يُمكِنُ أن يقَعَ بغيرِ قدرةِ الله، وحكمتِهِ، وتدبيرِه.

ولهذا لم تكن معهودةً في التاريخِ الإنسانيِّ، ولا يَعرِفُ الناسُ وقوعَها لغيرِ الأنبياء، ولو كانت مما يُمكِنُ أن تقَعَ بقدرةِ مخلوقٍ مِن المخلوقاتِ؛ كتأثيرِ الأفلاكِ، أو قوَّةِ الجِنِّ، أو الإنسِ، أو قدرةِ السِّحْرِ، أو غيرِ ذلك -: لأمكَنَ للناسِ مشاهَدةُ وقوعِ أمثالِها في الواقعِ، ولكنَّ ذلك لم يحصُلْ.

ثم إن معجِزةَ النبيِّ ^ الكُبْرى - وهي القرآنُ الكريمُ التي ما زالت باقيةً منذ صدَعَ بدعوتِهِ قبل أكثرَ مِن أربعةَ عشَرَ قرنًا - لم يأتِ أحدٌ بمِثلِها،

 مع تحدِّي النبيِّ ^ الناسَ بها، وتحفيزِهم على معارَضتِها، وتهديدِهم، ووعيدِهم، ولم يأتِ أحدٌ بمِثلِها حتى الآنَ؛ فهل خلا العالَمُ مِن الجِنِّ والشياطينِ،

 ومِن العرَّافينَ والسحَرةِ، ومِن الأفلاك؟! فلماذا لم يأتِ أحدٌ بمِثلِ القرآن؟!

{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}

[الإسراء: 88].

3- الفروقُ بين الأنبياءِ وآياتِهم، والسحَرةِ والكذَّابينَ وخوارقِهم: كثيرةٌ ومتنوِّعة:

بل بينهما مِن الفروقِ ما لا يُحصِيهِ إلا الله؛ فلهذا مِن دلائلِ صدقِه، ولهذا مِن دلائلِ كذبِهِ: ما لا يُمكِنُ إحصاؤُه، وآياتُ الأنبياءِ هي مِن آياتِ اللهِ الدالَّةِ على أمرِهِ ونهيِهِ،

 ووعدِهِ ووعيدِه؛ فتُعرَفُ الفروقُ الكثيرةُ بين آياتِ الأنبياءِ وبين ما يشتبِهُ بها مِن خوارقِ السحَرةِ والكذَّابين، كما يُعرَفُ الفرقُ بين النبيِّ والمتنبِّي، 

وبين ما يجيءُ به النبيُّ وما يجيءُ به المتنبِّي؛ فالنبيُّ الصادقُ خيرُ الناس، والكاذبُ على اللهِ شرُّ الناس؛ فالفرقُ حاصلٌ في نفسِ صفاتِ هذا وصفاتِ هذا،

 وأفعالِ هذا وأفعالِ هذا، وأمرِ هذا وأمرِ هذا، وخبَرِ هذا وخبَرِ هذا، وآياتِ هذا وآياتِ هذا، والفرقُ بينهما كالفرقِ بين الملائكةِ والشياطين، وأهلِ الجنَّةِ وأهلِ النار،

 وخيارِ الناسِ وشرارِهم؛ وهذا أعظَمُ الفروقِ بين الحقِّ والباطل، فكما يُعلَمُ بضرورةِ العقلِ مِن وجودِ أعظمِ الفرقِ بين الأنبياءِ وبين المجانينِ،

 وأنهم أعقَلُ الناسِ وأبعَدُهم عن الجنون، فكذلك يُعلَمُ بضرورةِ العقلِ أعظَمُ الفرقِ بين الأنبياءِ وبين السحَرة، وأنهم أفضَلُ الناسِ وأبعَدُهم عن السِّحْرِ والكذب؛

 فالفرقُ بين النبيِّ والساحرِ أعظمُ مِن الفرقِ بين الليلِ والنهار؛ فكيف يشتبِهُ هذا بهذا؟!

مختصر الجواب

مضمونُ السؤال:

إن صاحبَ السؤالِ يسلِّمُ بأن المعجِزاتِ موجودةٌ، وأن انخرامَ العاداتِ أمرٌ ممكِنٌ، غيرَ أن ذلك لا يَلزَمُ منه - بحسَبِ وجهةِ نظَرِهِ - أن يكونَ الفاعلُ لها هو اللهَ.

مختصَرُ الإجابة:

الاحتمالاتُ المذكورةُ في السؤالِ هي احتمالاتٌ عقليَّةٌ مجرَّدة، والاحتمالاتُ العقليَّةُ المجرَّدةُ لا تَقدَحُ في الأمورِ الوجوديَّةِ الثابتة.

كما أن المعجِزةَ التي تكونُ دليلًا للنبيِّ، لا بدَّ أن تكونَ مشتمِلةً على معانٍ عدَّةٍ تَجعَلُها خارجةً عن مقدورِ المخلوقِينَ مِن الإنسِ والجِنّ، 

ولا تدخُلُ ضِمنَ دائرةِ ما يَقدِرون عليه، والنبيُّ نفسُهُ ليس قادرًا عليها؛ فهي مِن الأحداثِ التي لا يَقدِرُ عليها إلا اللهُ تعالى،

 وليس كلُّ أمرٍ خرَمَ العادةَ كان معجِزةً أو آيةً للنبيِّ.

والفروقُ بين الأنبياءِ وآياتِهم، والسحَرةِ والكذَّابينَ وخوارقِهم: كثيرةٌ ومتنوِّعة؛ بل بينهما مِن الفروقِ ما لا يُحصِيهِ إلا الله؛ فالنبيُّ الصادقُ خيرُ الناس،

 والكاذبُ على اللهِ شرُّ الناس؛ فالفرقُ بينهما كالفرقِ بين الملائكةِ والشياطين، وأهلِ الجنَّةِ وأهلِ النار، وخيارِ الناسِ وشرارِهم،

 بل الفرقُ بين النبيِّ والساحرِ أعظمُ مِن الفرقِ بين الليلِ والنهار؛ فكيف يشتبِهُ هذا بهذا؟!

خاتمة الجواب

إن مسألةَ التفريقِ بين المعجِزةِ وبين غيرِها مِن خوارقِ العاداتِ: مِن المسائلِ التي طُرِحَتْ قديمًا في كُتُبِ علمِ الكلام. وقد كان لأئمَّةِ السُّنَّةِ والجماعةِ دَوْرٌ مُهِمٌّ في إبرازِ الفروقِ بين النوعَيْن، وبناءِ تلك الفروقِ على الأصولِ الاعتقاديَّةِ لأهلِ السُّنَّةِ في الحكمةِ والتعليل. 

مختصر الجواب

مضمونُ السؤال:

إن صاحبَ السؤالِ يسلِّمُ بأن المعجِزاتِ موجودةٌ، وأن انخرامَ العاداتِ أمرٌ ممكِنٌ، غيرَ أن ذلك لا يَلزَمُ منه - بحسَبِ وجهةِ نظَرِهِ - أن يكونَ الفاعلُ لها هو اللهَ.

مختصَرُ الإجابة:

الاحتمالاتُ المذكورةُ في السؤالِ هي احتمالاتٌ عقليَّةٌ مجرَّدة، والاحتمالاتُ العقليَّةُ المجرَّدةُ لا تَقدَحُ في الأمورِ الوجوديَّةِ الثابتة.

كما أن المعجِزةَ التي تكونُ دليلًا للنبيِّ، لا بدَّ أن تكونَ مشتمِلةً على معانٍ عدَّةٍ تَجعَلُها خارجةً عن مقدورِ المخلوقِينَ مِن الإنسِ والجِنّ، 

ولا تدخُلُ ضِمنَ دائرةِ ما يَقدِرون عليه، والنبيُّ نفسُهُ ليس قادرًا عليها؛ فهي مِن الأحداثِ التي لا يَقدِرُ عليها إلا اللهُ تعالى،

 وليس كلُّ أمرٍ خرَمَ العادةَ كان معجِزةً أو آيةً للنبيِّ.

والفروقُ بين الأنبياءِ وآياتِهم، والسحَرةِ والكذَّابينَ وخوارقِهم: كثيرةٌ ومتنوِّعة؛ بل بينهما مِن الفروقِ ما لا يُحصِيهِ إلا الله؛ فالنبيُّ الصادقُ خيرُ الناس،

 والكاذبُ على اللهِ شرُّ الناس؛ فالفرقُ بينهما كالفرقِ بين الملائكةِ والشياطين، وأهلِ الجنَّةِ وأهلِ النار، وخيارِ الناسِ وشرارِهم،

 بل الفرقُ بين النبيِّ والساحرِ أعظمُ مِن الفرقِ بين الليلِ والنهار؛ فكيف يشتبِهُ هذا بهذا؟!

الجواب التفصيلي

هذه الشبهةُ مبنيَّةٌ على اختزالٍ شديدٍ لحقيقةِ المعجِزة، وتحريفٍ ظاهرٍ لما يقرِّرُهُ المؤمِنون بالنبوَّةِ مِن خواصِّ معجِزاتِ الأنبياء؛

 بناءً على ما عَلِموهُ مِن حقيقتِها، والجوابُ عنها يحتاجُ إلى كشفِ الالتباسِ عما يَفصِلُ آياتِ الأنبياءِ عن سائرِ خوارِق العادات؛ وبيانُ ذلك تفصيلًا مِن وجوه:

1- الاحتمالاتُ المذكورةُ في السؤالِ احتمالاتٌ عقليَّةٌ مجرَّدة، والاحتمالاتُ العقليَّةُ المجرَّدةُ لا تَقدَحُ في الأمورِ الوجوديَّةِ الثابتة:

فهذه طريقةٌ باطلةٌ في بناءِ المعرِفةِ، ومسالكِ الاستدلال.

فالبحثُ ليس في مجرَّدِ الإمكانِ العقليِّ، وإنما في التحقُّقِ الخارجيِّ؛ لأن الإمكانَ العقليَّ لا يَكْفي في إثباتِ وجودِ شيءٍ في الخارجِ؛

 فكثيرٌ مِن الممكِناتِ في العقلِ يمتنِعُ أن تُوجَدَ في الخارجِ لموانعَ وجوديَّةٍ.

ومثالُ الأمورِ الممكِنةِ في العقلِ، التي يمتنِعُ أن تُوجَدَ في الخارجِ مِن جهةِ العادةِ: «بحرٌ مِن زِئبَقٍ»؛ فهذا شيءٌ لا يمتنِعُ تصوُّرُهُ عقلًا، لكنَّ وجودَهُ في الخارجِ والواقعِ غيرُ ممكِنٍ عادةً.

وبناءً عليه: فالتشكيكُ في الأمورِ الوجوديَّةِ لا بدَّ فيه مِن إثباتِ الامتناعِ الخارجيِّ؛ وهذا ما لم يقُمْ به صاحبُ هذا الاعتراض.

2- المعجِزةُ التي تكونُ دليلًا للنبيِّ لا بدَّ أن تكونَ خارجةً عن مقدورِ المخلوقِينَ مِن الإنسِ والجِنّ، ولا تدخُلُ ضِمنَ دائرةِ ما يَقدِرون عليه؛ فهي مِن الأحداثِ التي لا يَقدِرُ عليها إلا اللهُ تعالى:

فلا بدَّ في آياتِ الأنبياءِ مِن أن تكونَ - مع كونِها خارقةً للعادةِ - أمرًا غيرَ مُعتادٍ لغيرِ الأنبياء؛ بحيثُ لا يَقدِرُ عليه إلا اللهُ تعالى الذي أرسَلَ الأنبياءَ، ليس مما يَقدِرُ عليه غيرُ الأنبياء، لا بحِيلةٍ، ولا عزيمةٍ، ولا استعانةٍ بشياطينَ، ولا غيرِ ذلك؛ مثلُ ناقةِ صالح.

 ومِن خصائصِ معجِزاتِ الأنبياءِ: أنه لا يُمكِنُ معارَضتُها.

فإذا عجَزَ النوعُ البشَريُّ غيرُ الأنبياءِ عن معارَضتِها، كان ذلك أعظَمَ دليلٍ على اختصاصِها بالأنبياء؛ بخلافِ ما كان موجودًا لغيرِهم؛ فهذا لا يكونُ آيةً البتَّةَ.

فالإخبارُ بالمغيَّباتِ المستقبليَّةِ لا يُمكِنُ لإنسٍ، ولا جنٍّ، ولا ملائكةٍ - مهما كانت عظَمةُ القوَّةِ التي لدَيْهم - أن يأتوا بمِثلِها؛ لكونِ ذلك مِن خصائصِ الخالقِ، ومِن مقتضَياتِ ربوبيَّتِهِ للكون؛ فليست هي في مقدورِ الإنسِ، ولا الجِنِّ، بل ولا الأنبياءِ أنفسِهم؛ وإنما يُظهِرُها اللهُ تعالى على أيدي الأنبياءِ؛ تصديقًا لهم وتأييدًا.

وكذلك الحالُ في خروجِ الناقةِ مِن الهضَبةِ، وانقلابِ العصا إلى حيَّةٍ تَسْعى، وانفلاقِ البحرِ إلى طُرُقٍ متعدِّدةٍ يابسةٍ، وانشقاقِ القمَرِ، وغيرِها مِن المعجِزاتِ الكبرى التي تقَعُ على أيدي الأنبياء، ليست مما يُمكِنُ أن يقَعَ بغيرِ قدرةِ الله، وحكمتِهِ، وتدبيرِه.

ولهذا لم تكن معهودةً في التاريخِ الإنسانيِّ، ولا يَعرِفُ الناسُ وقوعَها لغيرِ الأنبياء، ولو كانت مما يُمكِنُ أن تقَعَ بقدرةِ مخلوقٍ مِن المخلوقاتِ؛ كتأثيرِ الأفلاكِ، أو قوَّةِ الجِنِّ، أو الإنسِ، أو قدرةِ السِّحْرِ، أو غيرِ ذلك -: لأمكَنَ للناسِ مشاهَدةُ وقوعِ أمثالِها في الواقعِ، ولكنَّ ذلك لم يحصُلْ.

ثم إن معجِزةَ النبيِّ ^ الكُبْرى - وهي القرآنُ الكريمُ التي ما زالت باقيةً منذ صدَعَ بدعوتِهِ قبل أكثرَ مِن أربعةَ عشَرَ قرنًا - لم يأتِ أحدٌ بمِثلِها،

 مع تحدِّي النبيِّ ^ الناسَ بها، وتحفيزِهم على معارَضتِها، وتهديدِهم، ووعيدِهم، ولم يأتِ أحدٌ بمِثلِها حتى الآنَ؛ فهل خلا العالَمُ مِن الجِنِّ والشياطينِ،

 ومِن العرَّافينَ والسحَرةِ، ومِن الأفلاك؟! فلماذا لم يأتِ أحدٌ بمِثلِ القرآن؟!

{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}

[الإسراء: 88].

3- الفروقُ بين الأنبياءِ وآياتِهم، والسحَرةِ والكذَّابينَ وخوارقِهم: كثيرةٌ ومتنوِّعة:

بل بينهما مِن الفروقِ ما لا يُحصِيهِ إلا الله؛ فلهذا مِن دلائلِ صدقِه، ولهذا مِن دلائلِ كذبِهِ: ما لا يُمكِنُ إحصاؤُه، وآياتُ الأنبياءِ هي مِن آياتِ اللهِ الدالَّةِ على أمرِهِ ونهيِهِ،

 ووعدِهِ ووعيدِه؛ فتُعرَفُ الفروقُ الكثيرةُ بين آياتِ الأنبياءِ وبين ما يشتبِهُ بها مِن خوارقِ السحَرةِ والكذَّابين، كما يُعرَفُ الفرقُ بين النبيِّ والمتنبِّي، 

وبين ما يجيءُ به النبيُّ وما يجيءُ به المتنبِّي؛ فالنبيُّ الصادقُ خيرُ الناس، والكاذبُ على اللهِ شرُّ الناس؛ فالفرقُ حاصلٌ في نفسِ صفاتِ هذا وصفاتِ هذا،

 وأفعالِ هذا وأفعالِ هذا، وأمرِ هذا وأمرِ هذا، وخبَرِ هذا وخبَرِ هذا، وآياتِ هذا وآياتِ هذا، والفرقُ بينهما كالفرقِ بين الملائكةِ والشياطين، وأهلِ الجنَّةِ وأهلِ النار،

 وخيارِ الناسِ وشرارِهم؛ وهذا أعظَمُ الفروقِ بين الحقِّ والباطل، فكما يُعلَمُ بضرورةِ العقلِ مِن وجودِ أعظمِ الفرقِ بين الأنبياءِ وبين المجانينِ،

 وأنهم أعقَلُ الناسِ وأبعَدُهم عن الجنون، فكذلك يُعلَمُ بضرورةِ العقلِ أعظَمُ الفرقِ بين الأنبياءِ وبين السحَرة، وأنهم أفضَلُ الناسِ وأبعَدُهم عن السِّحْرِ والكذب؛

 فالفرقُ بين النبيِّ والساحرِ أعظمُ مِن الفرقِ بين الليلِ والنهار؛ فكيف يشتبِهُ هذا بهذا؟!

خاتمة الجواب

إن مسألةَ التفريقِ بين المعجِزةِ وبين غيرِها مِن خوارقِ العاداتِ: مِن المسائلِ التي طُرِحَتْ قديمًا في كُتُبِ علمِ الكلام. وقد كان لأئمَّةِ السُّنَّةِ والجماعةِ دَوْرٌ مُهِمٌّ في إبرازِ الفروقِ بين النوعَيْن، وبناءِ تلك الفروقِ على الأصولِ الاعتقاديَّةِ لأهلِ السُّنَّةِ في الحكمةِ والتعليل.