نص السؤال

إن الإسلامَ لا يُثبِتُ العصمةَ إلا للنبيِّ ﷺ، ولا يقدِّسُ الأشخاصَ، والبخاريُّ ومسلِمٌ لم يكونا معصومَيْنِ، ولا عالِمَيْنِ بالغيوب؛ فكيف يَجزِمُ أهلُ السنَّةِ بصحَّةِ أحاديثِ كتابَيْهِما؟

المؤلف: باحثو مركز أصول

المصدر: مركز أصول

عبارات مشابهة للسؤال

البخاريُّ ومسلِمٌ ليسا معصومَيْنِ؛ فلا يجبُ الإيمانُ بـ «صحيحَيْهِما». 

الجواب التفصيلي

الجوابُ التفصيليّ:

هذه الشبهةُ يُقصَدُ بها الطعنُ في السنَّةِ النبويَّةِ، بالطعنِ في أهمِّ كتابَيْنِ صُنِّفَا فيها.

إن المنزِلةَ التي نالَها الصحيحانِ لدى أهلِ السنَّةِ مَحَلُّ انتقادٍ لدى كثيرٍ مِن أهلِ البِدَع، وقد يستشكِلُ ذلك بعضُ الناسِ، غيرَ أن النظرَ المُنصِفَ في ذلك يُطلِعُكَ على جانبٍ مِن جوانبِ حفظِ اللهِ تعالى لدينِهِ ولسُنَّةِ نبيِّه ﷺ، الذي ختَمَ به رسُلَه، وأوجَبَ على الخلقِ جميعًا اتِّباعَهُ وطاعتَه.

والاستشكالُ الواردُ في السؤالِ يتضمَّنُ الحاجةَ لمعرفةِ سببِ جزمِ أهلِ السنَّةِ بصحَّةِ جمهورِ أحاديثِ البخاريِّ ومسلِمٍ.

وبيانُ ذلك بما يأتي:

1- مِن أحاديثِ الصحيحَيْنِ ما تواتَرَ تواتُرًا معنويًّا، والتواتُرُ المعنويُّ يَنْفي احتمالَ الخطأِ والسهوِ والكذبِ عن الرواة:

فالأخبارُ الواردةُ عن النبيِّ ﷺ قد يَرِدُ على الواحدِ مِن النقَلةِ منفرِدًا احتمالُ الخطأِ والسهوِ والكَذِبِ؛ فيكونُ في جمعِ بعضِها إلى بعضٍ إضعافٌ لهذا الاحتمالِ أو نفيُهُ، حتى إنها لتَرْقى مِن سبيلِ الظنِّ الغالبِ إلى سبيلِ القطع.

قال أهلُ العلمِ: «مِن المعلومِ: أن حصولَ العلمِ في القلبِ بمُوجِبِ التواتُرِ مثلُ حصولِ الشِّبَعِ والرِّيِّ، وكلُّ واحدٍ مِن الأنباءِ يُفيدُ قدرًا مِن الاعتقاد، فإذا تعدَّدَتِ الأخبارُ وقَوِيتْ -: أفادتِِ العلمَ، إما للكثرةِ، وإما للقوَّةِ، وإما لمجموعِهما».

ولمَّا كان أهلُ السنَّةِ أكثرَ الناسِ عنايةً بكلامِ رسولِهم ﷺ، فإنه يتواتَرُ عندهم مِن النصوصِ ما لا يتواتَرُ عند غيرِهم، ويحصُلُ لهم مِن العلومِ والمعارفِ في المطالبِ الدينيَّةِ ما لا يحصُلُ لغيرِهم، وهم يستدِلُّون بحصولِ العلمِ الضروريِّ على حصولِ التواتُرِ الموجِبِ له.

ومِن الأحاديثِ التي يُنكِرُها المشكِّكون في الصحيحَيْنِ، ما تواتَرَ تواتُرًا معنويًّا؛ مثلُ أحاديثِ معجِزاتِ النبيِّ ﷺ، وما مِن عالِمٍ بطُرُقِها، ونَقَلَتِها، سَمِعَها كلَّها، إلا أفادَتْهُ علمًا ضروريًّا لا يُمكِنُهُ دفعُهُ عن نفسِه، أعظَمَ مِن عِلمِ عمومِ الناسِ بسخاءِ حاتمٍ، وشجاعةِ عَنْتَرةَ، ومُلْكِ كِسْرى، وحَرْبِ البَسُوسِ، ونحوِ ذلك مِن الأمورِ المتواتِرةِ عندهم مِن جهةِ المعنى.

ومَن سَمِعَ ما سَمِعَهُ أهلُ الحديثِ، وتدبَّر ما تدبَّروهُ، حصَل له مِن العلمِ ما يحصُلُ لهم، ولكنَّ أكثرَ الطاعِنين في «الصحيحَيْنِ» ليس لهم معرفةٌ بعلومِ الحديث، أو هم يجادِلون مِن بابِ الخصومة.

 2- أحاديثُ الصحيحَيْنِ تلقَّتها الأُمَّةُ بالقَبولِ؛ وهذا يَنْفي احتمالَ السهوِ والخطأِ والكذبِ عن رواتِها:

فتلقِّي الأمَّةِ للخبرِ بالقَبولِ يَنْفي احتمالَ الخطأِ والسهوِ والكذبِ على نقَلةِ الخبرِ؛ للأدلَّةِ الدالَّةِ على عصمةِ الأمَّةِ، وعلى حِفظِ اللهِ للدِّين، وإذا انتفى احتمالُ الخطأِ والسهوِ والكذبِ، كان الخبرُ مُفيدًا للعِلمِ واليقين.

3- الأحاديثُ التي تخالِفُ أصولَ الإسلامِ، لا تَرُوجُ على جهابذةِ أئمَّةِ الحديثِ ونُقَّادِه، ومنهم الإمامانِ البخاريُّ ومسلمٌ:

أ- إن حِفظَ اللهِ تعالى لسنَّةِ نبيِّهِ ﷺ مِن جنسِ حفظِهِ لكتابِهِ الذي لا يرُوجُ فيه الغلَطُ على صبيانِ المسلِمين، وكذلك الحديثُ لا يرُوجُ فيه الباطلُ على علماءِ الحديث.

والإمامُ البخاريُّ أتقَنَ كتابَهُ غايةَ الإتقان، ولاسيَّما في جانبِ التثبُّتِ مِن صحَّةِ الأحاديث، وقد وضَعَ شروطًا صارِمةً جِدًّا لصحَّةِ الحديثِ لم يضَعْها أحدٌ غيرُه؛ وبهذا خرَجَتْ أحاديثُ كثيرةٌ عن شرطِهِ لعلَّةٍ يسيرةٍ أو شُبْهةٍ دقيقة.

وقد أمضى الإمامُ البخاريُّ سنينَ عدَّةً في تمحیصِ كتابِهِ وتدقيقِهِ؛ كما قال: «صنَّفتُ كتابي الصحيحَ لسِتَّ عَشْرةَ سنةً، خرَّجتُهُ مِن ستِّ مِئَةِ ألفِ حديثٍ، وجعَلتُهُ حُجَّةً فيما بيني وبين اللهِ تعالى»؛ رواه الخطيبُ البغداديُّ في «الجامعْ، لأخلاقِ الراوي وآدابِ السامعْ» (1562).

ب- ومع ذلك كان البخاريُّ رحمه اللهُ يتقرَّبُ إلى اللهِ بالصلاةِ عند كتابةِ كلِّ حدیثٍ؛ رجاءَ أن يوفِّقَهُ اللهُ في كتابِه:

قال الفَرَبْريُّ: «قال لي محمَّدُ بنُ إسماعيلَ البخاريُّ: «ما وضَعْتُ في كتابِ الصحيحِ حديثًا إلا اغتسَلتُ قبل ذلك، وصلَّيْتُ ركعتَيْن».

ج- ثم إن الإمامَ البخاريَّ عرَضَ كتابَهُ «الجامعَ الصحيحَ» على جهابذةِ علماءِ الحديثِ في زمانِهِ؛ كما حكى ذلك العُقَیليُّ، فقال: «لمَّا ألَّف البخاريُّ كتابَ الصحيحِ، عرَضهُ على أحمدَ بنِ حَنبَلٍ، ويحيى بنِ مَعينٍ، وعليِّ بنِ المَدِينيِّ، وغيرِهم، فاستحسَنوهُ وشَهِدوا له بالصحَّةِ إلا في أربعةِ أحاديث»، قال العُقَيليُّ: «والقولُ فيها قولُ البخاريِّ، وهي صحيحة». «فتح الباري» لابن حجَر (1/ 7).

د- وسَمِعَ «الجامعَ الصحيحَ» مِن الإمامِ البخاريِّ خلقٌ كثيرٌ مِن طلَّابِهِ النُّجَباء، الذين يُقدَّرون بالآلاف؛ قال الفَرَبْريُّ: «سَمِعَ الصحيحَ مِن البخاريِّ تسعونَ ألفًا»، ويرى بعضُ المحقِّقينَ: أن عدَدَهم أكثرُ مِن ذلك.

وقد اهتَمَّ هؤلاءِ الرواةُ بـ «الجامعِ الصحيحِ» أشدَّ الاهتمام؛ فكانوا يَقرَؤونه كلمةً كلمةً، ويَفحَصونه حرفًا حرفًا.

هـ- فـ «الجامعُ الصحيحُ» لم يقتصِرِ العملُ فيه على جهدِ الإمامِ البخاريِّ وحدَه، بل فحَصَهُ جهابذةُ العلماءِ الذين هم شيوخُ البخاريِّ وأقرانُهُ وتلامذتُه، بل استمَرَّ الفحصُ والتدقيقُ لعصورٍ مديدةٍ، فأجاز هؤلاءِ العلماءُ «الجامعَ الصحيحَ»، وأيَّدوا الإمامَ البخاريَّ في الأعمِّ الأغلبِ مِن صحيحِه، ولم ينتقِدوا فيه شيئًا سوى أحرُفٍ يسيرةٍ لا تكادُ تُذكَر.

فالكتابُ - إذَنْ - بصورتِهِ الحاليَّةِ: يُعَدُّ عملًا جماعيًّا؛ وهذا يدُلُّ على قلَّةِ نسبةِ الخطأِ فيه؛ لأنه رُوجِعَ مِن قِبَلِ آلافِ الجهابذةِ مِن علماءِ الحديث، ومِن ذوي المعارفِ المختلِفة.

وأخيرًا: فمِن الواجبِ أن يُعلَمَ أن نفيَ العصمةِ عن البخاريِّ وغيرِهِ مِن أئمَّةِ الحديثِ، لا يَعْني أنهم كانوا مغفَّلين ترُوجُ عليهم الأحاديثُ التي تَطعَنُ في أصولِ الإسلام، وتؤيِّدُ أعداءَه، كما يقولُهُ أهلُ الكلام؛ فإنهم يَطعَنون في مقدرةِ أهلِ الحديثِ على التعامُلِ مع احتمالاتِ الخطأِ والسهوِ والكذبِ، فيتَّهِمونهم بالغفلةِ وقلَّةِ التحرِّي، حتى إن الزنادقةَ دلَّسوا عليهم أحاديثَ مكذوبةً، فراجَتْ عليهم.

وقد أجاب الإمامُ عثمانُ بنُ سعيدٍ الدارِميُّ - على الجَهْميِّ الذي ناظَرهُ، وادَّعى أن الزنادقةَ دلَّسوا على أهلِ الحديثِ اثنَيْ عشَرَ ألفَ حديثٍ - بقولِهِ:

  • «أوَليس قد ادَّعَيْتَ أن الزنادقةَ قد وضَعوا اثنَيْ عشَرَ ألفَ حديثٍ دلَّسوها على المحدِّثين؟! فدونَكَ - أيُّها الناقدُ البصيرْ، الفارسُ النِّحْرِيرْ - فأَوجِدْنا منها اثنَيْ عشَرَ حديثًا؛ فإن لم تَقدِرْ عليها، فلِمَ تمتحِنُ العلمَ والدِّينَ في أعيُنِ الجهَّالِ بخرافاتِكَ هذه؟! لأن هذا الحديثَ إنما هو دِينُ اللهِ بعد القرآن، وأصلُ كُلِّ فقهٍ؛ فمَن طعَنَ فيه، فإنما يَطعَنُ في دِينِ اللهِ تعالى». «رَدُّ الدارِميّ، على بِشْرٍ المَرِيسيّ» (ص242).

وقال:  «ما إِخالُكَ إلا وستَعلَمُ أنه لا يجوزُ للزنادقةِ على أهلِ العلمِ بالحديثِ تدليسٌ، غيرَ أنك تريدُ أن تهجُرَ العلمَ وأهلَه، وتُزْرِيَ بهم مِن أعيُنِ مَن حوَالَيْكَ مِن السفهاء، بمِثلِ هذه الحكاياتِ؛ كيما يَرْتابَ فيها جاهلٌ فيَرَاكَ صادقًا في دَعْواك؛ فدونَكَ - أيُّها المعارِضُ - فأَوجِدْنا عشَرةَ أحاديثَ دلَّسُوها على أهلِ العلمِ، كما أوجَدْناكَ مما دلَّسوا على إمامِكَ المَرِيسيّ، أو جَرِّبْ أنت فدَلِّسْ عليهم منها عشَرةً؛ حتى تراهم كيف يرُدُّونها في نَحْرِك». «رَدُّ الدارِميّ، على بِشْرٍ المَرِيسيّ» (ص260).

مختصر الجواب

مضمونُ السؤال:
إن الإسلامَ لا يُثبِتُ العصمةَ إلا للنبيِّ ﷺ، ولا يقدِّسُ الأشخاصَ، والبخاريُّ ومسلِمٌ لم يكونا معصومَيْنِ، ولا عالِمَيْنِ بالغيوب؛ وهذا - مِن وجهةِ نظرِ السائل - يَمنَعُ مِن لزومِ اتِّباعِ أحاديثِ «صحيحَيْهِما». 
مختصَرُ الإجابة:
العصمةُ لا يُثبِتُها أهلُ السنَّةِ لا للبخاريِّ ولا لمسلِمٍ، ولا لمَن فوقَهما مِن الرواةِ عن النبيِّ ﷺ، وإنما يُثبِتونها للأمَّة؛ للأدلَّةِ الدالَّةِ على ذلك، وقد تلقَّتِ الأمَّةُ جمهورَ أحاديثِهما بالقَبُولِ، نتيجةَ تمحيصِ ودراسةِ أحاديثِهما سندًا ومتنًا؛ مما يَنْفي احتمالَ الخطأِ والسهوِ والكذبِ عن رواةِ جمهورِ أحاديثِهما، ومِن أحاديثِ الصحيحَيْنِ ما تواتَرَ تواتُرًا معنويًّا، والتواتُرُ المعنويُّ يَنْفي احتمالَ الخطأِ والسهوِ والكذبِ عن الرواة، كما أن الأحاديثَ التي تخالِفُ أصولَ الإسلامِ، لا تَرُوجُ على جهابذةِ أئمَّةِ الحديثِ ونُقَّادِه، ومنهم الإمامانِ البخاريُّ ومسلمٌ.
و«الجامعُ الصحيحُ» لم يقتصِرِ العملُ فيه على جهدِ الإمامِ البخاريِّ وحدَه، بل فحَصَهُ جهابذةُ العلماءِ الذين هم شيوخُ البخاريِّ وأقرانُهُ وتلامذتُه، بل استمَرَّ الفحصُ والتدقيقُ لعصورٍ مديدةٍ، فأجاز هؤلاءِ العلماءُ «الجامعَ الصحيحَ»، وأيَّدوا الإمامَ البخاريَّ في الأعمِّ الأغلبِ مِن صحيحِه.
فالكتابُ بصورتِهِ الحاليَّةِ: يُعَدُّ عملًا جماعيًّا؛ وهذا يدُلُّ على قلَّةِ نسبةِ الخطأِ فيه؛ لأنه رُوجِعَ مِن قِبَلِ آلافِ الجهابذةِ مِن علماءِ الحديث، ومِن ذوي المعارفِ المختلِفة.
ومِن الواجبِ أن يُعلَمَ أن نفيَ العصمةِ عن البخاريِّ وغيرِهِ مِن أئمَّةِ الحديثِ، لا يَعْني أنهم كانوا مغفَّلين ترُوجُ عليهم الأحاديثُ التي تَطعَنُ في أصولِ الإسلام، وتؤيِّدُ أعداءَه، كما يقولُهُ أهلُ الكلام؛ فإنهم يَطعَنون في مقدرةِ أهلِ الحديثِ على التعامُلِ مع احتمالاتِ الخطأِ والسهوِ والكذبِ، فيتَّهِمونهم بالغفلةِ وقلَّةِ التحرِّي، حتى إن الزنادقةَ دلَّسوا عليهم أحاديثَ مكذوبةً، فراجَتْ عليهم.
وأخيرًا: فإن إفادةَ هذه الأحاديثِ للعلمِ واليقينِ مِن مقتضَى حفظِ اللهِ لدِينِهِ ولسُنَّةِ نبيِّه ﷺ، الذي ختَمَ به رسُلَه، وأوجَبَ على الخلقِ جميعًا اتِّباعَهُ وطاعتَه. 

خاتمة الجواب

خاتِمةُ الجواب - توصية:
اطِّلاعٌ يسيرٌ على جهودِ العلماءِ على مَرِّ القرون، وفيهم أهلُ الدِّينِ والعقلِ والعلم، سيُدرِكُ به الناظرُ أن هذه الشبهةَ لا يُمكِنُ أن تمُرَّ على كلِّ هؤلاءِ دون جوابٍ؛ مما يَجعَلُهُ يتأنَّى قبل أن يتبنَّى الشكَّ في السنَّةِ النبويَّة، ثم بعد مطالَعةِ كلامِ العلماءِ سيُدرِكُ ضعفَ الشبهة.

مختصر الجواب

مضمونُ السؤال:
إن الإسلامَ لا يُثبِتُ العصمةَ إلا للنبيِّ ﷺ، ولا يقدِّسُ الأشخاصَ، والبخاريُّ ومسلِمٌ لم يكونا معصومَيْنِ، ولا عالِمَيْنِ بالغيوب؛ وهذا - مِن وجهةِ نظرِ السائل - يَمنَعُ مِن لزومِ اتِّباعِ أحاديثِ «صحيحَيْهِما». 
مختصَرُ الإجابة:
العصمةُ لا يُثبِتُها أهلُ السنَّةِ لا للبخاريِّ ولا لمسلِمٍ، ولا لمَن فوقَهما مِن الرواةِ عن النبيِّ ﷺ، وإنما يُثبِتونها للأمَّة؛ للأدلَّةِ الدالَّةِ على ذلك، وقد تلقَّتِ الأمَّةُ جمهورَ أحاديثِهما بالقَبُولِ، نتيجةَ تمحيصِ ودراسةِ أحاديثِهما سندًا ومتنًا؛ مما يَنْفي احتمالَ الخطأِ والسهوِ والكذبِ عن رواةِ جمهورِ أحاديثِهما، ومِن أحاديثِ الصحيحَيْنِ ما تواتَرَ تواتُرًا معنويًّا، والتواتُرُ المعنويُّ يَنْفي احتمالَ الخطأِ والسهوِ والكذبِ عن الرواة، كما أن الأحاديثَ التي تخالِفُ أصولَ الإسلامِ، لا تَرُوجُ على جهابذةِ أئمَّةِ الحديثِ ونُقَّادِه، ومنهم الإمامانِ البخاريُّ ومسلمٌ.
و«الجامعُ الصحيحُ» لم يقتصِرِ العملُ فيه على جهدِ الإمامِ البخاريِّ وحدَه، بل فحَصَهُ جهابذةُ العلماءِ الذين هم شيوخُ البخاريِّ وأقرانُهُ وتلامذتُه، بل استمَرَّ الفحصُ والتدقيقُ لعصورٍ مديدةٍ، فأجاز هؤلاءِ العلماءُ «الجامعَ الصحيحَ»، وأيَّدوا الإمامَ البخاريَّ في الأعمِّ الأغلبِ مِن صحيحِه.
فالكتابُ بصورتِهِ الحاليَّةِ: يُعَدُّ عملًا جماعيًّا؛ وهذا يدُلُّ على قلَّةِ نسبةِ الخطأِ فيه؛ لأنه رُوجِعَ مِن قِبَلِ آلافِ الجهابذةِ مِن علماءِ الحديث، ومِن ذوي المعارفِ المختلِفة.
ومِن الواجبِ أن يُعلَمَ أن نفيَ العصمةِ عن البخاريِّ وغيرِهِ مِن أئمَّةِ الحديثِ، لا يَعْني أنهم كانوا مغفَّلين ترُوجُ عليهم الأحاديثُ التي تَطعَنُ في أصولِ الإسلام، وتؤيِّدُ أعداءَه، كما يقولُهُ أهلُ الكلام؛ فإنهم يَطعَنون في مقدرةِ أهلِ الحديثِ على التعامُلِ مع احتمالاتِ الخطأِ والسهوِ والكذبِ، فيتَّهِمونهم بالغفلةِ وقلَّةِ التحرِّي، حتى إن الزنادقةَ دلَّسوا عليهم أحاديثَ مكذوبةً، فراجَتْ عليهم.
وأخيرًا: فإن إفادةَ هذه الأحاديثِ للعلمِ واليقينِ مِن مقتضَى حفظِ اللهِ لدِينِهِ ولسُنَّةِ نبيِّه ﷺ، الذي ختَمَ به رسُلَه، وأوجَبَ على الخلقِ جميعًا اتِّباعَهُ وطاعتَه. 

الجواب التفصيلي

الجوابُ التفصيليّ:

هذه الشبهةُ يُقصَدُ بها الطعنُ في السنَّةِ النبويَّةِ، بالطعنِ في أهمِّ كتابَيْنِ صُنِّفَا فيها.

إن المنزِلةَ التي نالَها الصحيحانِ لدى أهلِ السنَّةِ مَحَلُّ انتقادٍ لدى كثيرٍ مِن أهلِ البِدَع، وقد يستشكِلُ ذلك بعضُ الناسِ، غيرَ أن النظرَ المُنصِفَ في ذلك يُطلِعُكَ على جانبٍ مِن جوانبِ حفظِ اللهِ تعالى لدينِهِ ولسُنَّةِ نبيِّه ﷺ، الذي ختَمَ به رسُلَه، وأوجَبَ على الخلقِ جميعًا اتِّباعَهُ وطاعتَه.

والاستشكالُ الواردُ في السؤالِ يتضمَّنُ الحاجةَ لمعرفةِ سببِ جزمِ أهلِ السنَّةِ بصحَّةِ جمهورِ أحاديثِ البخاريِّ ومسلِمٍ.

وبيانُ ذلك بما يأتي:

1- مِن أحاديثِ الصحيحَيْنِ ما تواتَرَ تواتُرًا معنويًّا، والتواتُرُ المعنويُّ يَنْفي احتمالَ الخطأِ والسهوِ والكذبِ عن الرواة:

فالأخبارُ الواردةُ عن النبيِّ ﷺ قد يَرِدُ على الواحدِ مِن النقَلةِ منفرِدًا احتمالُ الخطأِ والسهوِ والكَذِبِ؛ فيكونُ في جمعِ بعضِها إلى بعضٍ إضعافٌ لهذا الاحتمالِ أو نفيُهُ، حتى إنها لتَرْقى مِن سبيلِ الظنِّ الغالبِ إلى سبيلِ القطع.

قال أهلُ العلمِ: «مِن المعلومِ: أن حصولَ العلمِ في القلبِ بمُوجِبِ التواتُرِ مثلُ حصولِ الشِّبَعِ والرِّيِّ، وكلُّ واحدٍ مِن الأنباءِ يُفيدُ قدرًا مِن الاعتقاد، فإذا تعدَّدَتِ الأخبارُ وقَوِيتْ -: أفادتِِ العلمَ، إما للكثرةِ، وإما للقوَّةِ، وإما لمجموعِهما».

ولمَّا كان أهلُ السنَّةِ أكثرَ الناسِ عنايةً بكلامِ رسولِهم ﷺ، فإنه يتواتَرُ عندهم مِن النصوصِ ما لا يتواتَرُ عند غيرِهم، ويحصُلُ لهم مِن العلومِ والمعارفِ في المطالبِ الدينيَّةِ ما لا يحصُلُ لغيرِهم، وهم يستدِلُّون بحصولِ العلمِ الضروريِّ على حصولِ التواتُرِ الموجِبِ له.

ومِن الأحاديثِ التي يُنكِرُها المشكِّكون في الصحيحَيْنِ، ما تواتَرَ تواتُرًا معنويًّا؛ مثلُ أحاديثِ معجِزاتِ النبيِّ ﷺ، وما مِن عالِمٍ بطُرُقِها، ونَقَلَتِها، سَمِعَها كلَّها، إلا أفادَتْهُ علمًا ضروريًّا لا يُمكِنُهُ دفعُهُ عن نفسِه، أعظَمَ مِن عِلمِ عمومِ الناسِ بسخاءِ حاتمٍ، وشجاعةِ عَنْتَرةَ، ومُلْكِ كِسْرى، وحَرْبِ البَسُوسِ، ونحوِ ذلك مِن الأمورِ المتواتِرةِ عندهم مِن جهةِ المعنى.

ومَن سَمِعَ ما سَمِعَهُ أهلُ الحديثِ، وتدبَّر ما تدبَّروهُ، حصَل له مِن العلمِ ما يحصُلُ لهم، ولكنَّ أكثرَ الطاعِنين في «الصحيحَيْنِ» ليس لهم معرفةٌ بعلومِ الحديث، أو هم يجادِلون مِن بابِ الخصومة.

 2- أحاديثُ الصحيحَيْنِ تلقَّتها الأُمَّةُ بالقَبولِ؛ وهذا يَنْفي احتمالَ السهوِ والخطأِ والكذبِ عن رواتِها:

فتلقِّي الأمَّةِ للخبرِ بالقَبولِ يَنْفي احتمالَ الخطأِ والسهوِ والكذبِ على نقَلةِ الخبرِ؛ للأدلَّةِ الدالَّةِ على عصمةِ الأمَّةِ، وعلى حِفظِ اللهِ للدِّين، وإذا انتفى احتمالُ الخطأِ والسهوِ والكذبِ، كان الخبرُ مُفيدًا للعِلمِ واليقين.

3- الأحاديثُ التي تخالِفُ أصولَ الإسلامِ، لا تَرُوجُ على جهابذةِ أئمَّةِ الحديثِ ونُقَّادِه، ومنهم الإمامانِ البخاريُّ ومسلمٌ:

أ- إن حِفظَ اللهِ تعالى لسنَّةِ نبيِّهِ ﷺ مِن جنسِ حفظِهِ لكتابِهِ الذي لا يرُوجُ فيه الغلَطُ على صبيانِ المسلِمين، وكذلك الحديثُ لا يرُوجُ فيه الباطلُ على علماءِ الحديث.

والإمامُ البخاريُّ أتقَنَ كتابَهُ غايةَ الإتقان، ولاسيَّما في جانبِ التثبُّتِ مِن صحَّةِ الأحاديث، وقد وضَعَ شروطًا صارِمةً جِدًّا لصحَّةِ الحديثِ لم يضَعْها أحدٌ غيرُه؛ وبهذا خرَجَتْ أحاديثُ كثيرةٌ عن شرطِهِ لعلَّةٍ يسيرةٍ أو شُبْهةٍ دقيقة.

وقد أمضى الإمامُ البخاريُّ سنينَ عدَّةً في تمحیصِ كتابِهِ وتدقيقِهِ؛ كما قال: «صنَّفتُ كتابي الصحيحَ لسِتَّ عَشْرةَ سنةً، خرَّجتُهُ مِن ستِّ مِئَةِ ألفِ حديثٍ، وجعَلتُهُ حُجَّةً فيما بيني وبين اللهِ تعالى»؛ رواه الخطيبُ البغداديُّ في «الجامعْ، لأخلاقِ الراوي وآدابِ السامعْ» (1562).

ب- ومع ذلك كان البخاريُّ رحمه اللهُ يتقرَّبُ إلى اللهِ بالصلاةِ عند كتابةِ كلِّ حدیثٍ؛ رجاءَ أن يوفِّقَهُ اللهُ في كتابِه:

قال الفَرَبْريُّ: «قال لي محمَّدُ بنُ إسماعيلَ البخاريُّ: «ما وضَعْتُ في كتابِ الصحيحِ حديثًا إلا اغتسَلتُ قبل ذلك، وصلَّيْتُ ركعتَيْن».

ج- ثم إن الإمامَ البخاريَّ عرَضَ كتابَهُ «الجامعَ الصحيحَ» على جهابذةِ علماءِ الحديثِ في زمانِهِ؛ كما حكى ذلك العُقَیليُّ، فقال: «لمَّا ألَّف البخاريُّ كتابَ الصحيحِ، عرَضهُ على أحمدَ بنِ حَنبَلٍ، ويحيى بنِ مَعينٍ، وعليِّ بنِ المَدِينيِّ، وغيرِهم، فاستحسَنوهُ وشَهِدوا له بالصحَّةِ إلا في أربعةِ أحاديث»، قال العُقَيليُّ: «والقولُ فيها قولُ البخاريِّ، وهي صحيحة». «فتح الباري» لابن حجَر (1/ 7).

د- وسَمِعَ «الجامعَ الصحيحَ» مِن الإمامِ البخاريِّ خلقٌ كثيرٌ مِن طلَّابِهِ النُّجَباء، الذين يُقدَّرون بالآلاف؛ قال الفَرَبْريُّ: «سَمِعَ الصحيحَ مِن البخاريِّ تسعونَ ألفًا»، ويرى بعضُ المحقِّقينَ: أن عدَدَهم أكثرُ مِن ذلك.

وقد اهتَمَّ هؤلاءِ الرواةُ بـ «الجامعِ الصحيحِ» أشدَّ الاهتمام؛ فكانوا يَقرَؤونه كلمةً كلمةً، ويَفحَصونه حرفًا حرفًا.

هـ- فـ «الجامعُ الصحيحُ» لم يقتصِرِ العملُ فيه على جهدِ الإمامِ البخاريِّ وحدَه، بل فحَصَهُ جهابذةُ العلماءِ الذين هم شيوخُ البخاريِّ وأقرانُهُ وتلامذتُه، بل استمَرَّ الفحصُ والتدقيقُ لعصورٍ مديدةٍ، فأجاز هؤلاءِ العلماءُ «الجامعَ الصحيحَ»، وأيَّدوا الإمامَ البخاريَّ في الأعمِّ الأغلبِ مِن صحيحِه، ولم ينتقِدوا فيه شيئًا سوى أحرُفٍ يسيرةٍ لا تكادُ تُذكَر.

فالكتابُ - إذَنْ - بصورتِهِ الحاليَّةِ: يُعَدُّ عملًا جماعيًّا؛ وهذا يدُلُّ على قلَّةِ نسبةِ الخطأِ فيه؛ لأنه رُوجِعَ مِن قِبَلِ آلافِ الجهابذةِ مِن علماءِ الحديث، ومِن ذوي المعارفِ المختلِفة.

وأخيرًا: فمِن الواجبِ أن يُعلَمَ أن نفيَ العصمةِ عن البخاريِّ وغيرِهِ مِن أئمَّةِ الحديثِ، لا يَعْني أنهم كانوا مغفَّلين ترُوجُ عليهم الأحاديثُ التي تَطعَنُ في أصولِ الإسلام، وتؤيِّدُ أعداءَه، كما يقولُهُ أهلُ الكلام؛ فإنهم يَطعَنون في مقدرةِ أهلِ الحديثِ على التعامُلِ مع احتمالاتِ الخطأِ والسهوِ والكذبِ، فيتَّهِمونهم بالغفلةِ وقلَّةِ التحرِّي، حتى إن الزنادقةَ دلَّسوا عليهم أحاديثَ مكذوبةً، فراجَتْ عليهم.

وقد أجاب الإمامُ عثمانُ بنُ سعيدٍ الدارِميُّ - على الجَهْميِّ الذي ناظَرهُ، وادَّعى أن الزنادقةَ دلَّسوا على أهلِ الحديثِ اثنَيْ عشَرَ ألفَ حديثٍ - بقولِهِ:

  • «أوَليس قد ادَّعَيْتَ أن الزنادقةَ قد وضَعوا اثنَيْ عشَرَ ألفَ حديثٍ دلَّسوها على المحدِّثين؟! فدونَكَ - أيُّها الناقدُ البصيرْ، الفارسُ النِّحْرِيرْ - فأَوجِدْنا منها اثنَيْ عشَرَ حديثًا؛ فإن لم تَقدِرْ عليها، فلِمَ تمتحِنُ العلمَ والدِّينَ في أعيُنِ الجهَّالِ بخرافاتِكَ هذه؟! لأن هذا الحديثَ إنما هو دِينُ اللهِ بعد القرآن، وأصلُ كُلِّ فقهٍ؛ فمَن طعَنَ فيه، فإنما يَطعَنُ في دِينِ اللهِ تعالى». «رَدُّ الدارِميّ، على بِشْرٍ المَرِيسيّ» (ص242).

وقال:  «ما إِخالُكَ إلا وستَعلَمُ أنه لا يجوزُ للزنادقةِ على أهلِ العلمِ بالحديثِ تدليسٌ، غيرَ أنك تريدُ أن تهجُرَ العلمَ وأهلَه، وتُزْرِيَ بهم مِن أعيُنِ مَن حوَالَيْكَ مِن السفهاء، بمِثلِ هذه الحكاياتِ؛ كيما يَرْتابَ فيها جاهلٌ فيَرَاكَ صادقًا في دَعْواك؛ فدونَكَ - أيُّها المعارِضُ - فأَوجِدْنا عشَرةَ أحاديثَ دلَّسُوها على أهلِ العلمِ، كما أوجَدْناكَ مما دلَّسوا على إمامِكَ المَرِيسيّ، أو جَرِّبْ أنت فدَلِّسْ عليهم منها عشَرةً؛ حتى تراهم كيف يرُدُّونها في نَحْرِك». «رَدُّ الدارِميّ، على بِشْرٍ المَرِيسيّ» (ص260).

خاتمة الجواب

خاتِمةُ الجواب - توصية:
اطِّلاعٌ يسيرٌ على جهودِ العلماءِ على مَرِّ القرون، وفيهم أهلُ الدِّينِ والعقلِ والعلم، سيُدرِكُ به الناظرُ أن هذه الشبهةَ لا يُمكِنُ أن تمُرَّ على كلِّ هؤلاءِ دون جوابٍ؛ مما يَجعَلُهُ يتأنَّى قبل أن يتبنَّى الشكَّ في السنَّةِ النبويَّة، ثم بعد مطالَعةِ كلامِ العلماءِ سيُدرِكُ ضعفَ الشبهة.