نص السؤال

كيف تكونُ السنَّةُ النبويَّةُ ثابتةً، وهي ظنِّيَّةٌ؟ ويدُلُّ على ذلك مثلًا الاختلافُ بين المحدِّثين، ووجودُ الأحاديثِ الصحيحةِ والضعيفة

المؤلف: باحثو مركز أصول

المصدر: مركز أصول

عبارات مشابهة للسؤال

أسبابُ الاختلافِ بين المحدِّثين

الجواب التفصيلي

الجوابُ التفصيليّ: 
يتبيَّنُ الجوابُ عن سؤالِ ظَنِّيَّةِ السنَّةِ على جهةِ التفصيلِ مِن خلالِ النقاطِ الآتية:
1- السنَّةُ النبويَّةُ فيها قسمٌ كبيرٌ أجمَعَ المحدِّثون على صِحَّتِهِ وتلقِّيهِ بالقَبول:
فنحنُ لا نسلِّمُ أن النصوصَ الدالَّةَ على ما تَحْتاجُ إليه الأمَّةُ في شؤونِ عقائدِها ومعامَلاتِها وعباداتِها قد اختلَفَ المحدِّثون فيها تصحيحًا وتضعيفًا، بل أهلُ الحديثِ يُجمِعون على تصحيحِ أحاديثَ تواتَرتْ عندهم؛ كأحاديثِ سجودِ السهو، ووجوبِ الشُّفْعة، وحملِ العاقلةِ العَقْلَ، ورجمِ الزاني المحصَن، وأحاديثِ الرؤيةِ، والنزولِ الإلهيِّ، وعذابِ القبر، والحوضِ والشفاعةِ، وأمثالِ ذلك، وإن لم تكن تلك الأحاديثُ قد تواتَرتْ عند غيرِهم؛ فهذه الأحاديثُ كلُّها قطعيَّةٌ تُفيدُ العِلمَ.
وجمهورُ الأحاديثِ الواردةِ في «صحيحَيِ البخاريِّ ومسلِمٍ» مثلًا هي أحاديثُ مُجمَعٌ على صحَّتِها، تلقَّتْها الأمَّةُ بالقَبول، وهي تُفيدُ العِلمَ، وليس ثبوتُها ظنِّيًّا؛ لأن إجماعَ الأمَّةِ معصومٌ؛ كما أن حِفظَ اللهِ للدِّينِ يستلزِمَ إفادةَ هذه الأحاديثِ لليقينِ دون الظنّ.
2- ما اختلَفَ فيه المحدِّثون تصحيحًا وتضعيفًا له أسبابٌ علميَّةٌ:
فنحن نَعلَمُ أن لقَبولِ الأحاديثِ وردِّها ضوابطَ وشروطًا، وهذه الشروطُ بعضُها متَّفَقٌ عليه، وبعضُها مختلَفٌ فيه؛ فالعلماءُ يختلِفون مثَلًا في روايةِ المجهول، وفي روايةِ المبتدِع، وفي روايةِ مَن يأخُذُ أجرةً على التحديث، إلى غيرِ ذلك مِن المسائلِ المعروفةِ في عِلمِ «مصطلَحِ الحديث».
والاحتجاجُ بمجرَّدِ الاختلافِ على إبطالِ منهجيَّةِ المحدِّثين بالكلِّيَّةِ هو منهجٌ فاسدٌ، ولو طبَّقناهُ في كلِّ العلومِ، لبَطَلتْ جميعُها؛ فالفقهاءُ يختلِفون، وليس ذلك بمُوجِبٍ للإعراضِ عن الفقهِ بالكلِّيَّة، والمفسِّرون يختلِفون، وليس ذلك بموجِبٍ للإعراضِ عن التفسيرِ بالكلِّيَّة، بل هذا مَدخَلٌ للسَّفْسَطةِ (وهي: جَحْدُ الحقائقِ الضروريَّة)؛ فالسُّوفُسْطائيُّون المنكِرون لثبوتِ أيَّةِ حقيقةٍ، وأيَّةِ معرفةٍ، أخَذوا أوَّلَ أسلِحَتِهم مِن وقوعِ الاختلافِ بين آراءِ العقلاءِ - بل بين آراءِ عاقلٍ واحدٍ في أزمنةٍ مختلِفةٍ - فأنكَروا وجودَ الحقيقةِ فيما اتَّفَقوا عليه أيضًا، وفيما ثبَتوا فيه أيضًا!
3- ولو فُرِضَتْ ظنِّيَّةُ بعضِ ما ورَدَ في السنَّةِ النبويَّةِ، فإن صحَّةَ الإسنادِ (أو حُسْنَهُ) كافيةٌ لوجوبِ العمَلِ به، ولا يُشترَطُ القطعُ:
فصاحبُ السؤالِ قد يقولُ: «إنني لا أَقصِدُ مِن القولِ بظنِّيَّةِ السنَّةِ إبطالَها ورَدَّها بالكلِّيَّة، وإنما أتعجَّبُ كيف تكونُ ظنِّيَّةً، ومع ذلك نحنُ مأمورون بالعمَلِ بها»؛ فحينئذٍ يقالُ له:
كَذِبُ الظنونِ نادرٌ، وصِدقُها غالبٌ، فلو تُرِكَ العملُ بالظنونِ خوفًا مِن وقوعِ الاحتمالاتِ النادرةِ التي تَكذِبُ فيها تلك الظنونُ، لتعطَّلتْ مصالحُ كثيرةٌ غالبةٌ، خوفًا مِن وقوعِ مفاسدَ قليلةٍ نادرةٍ؛ وهذا يخالِفُ الحكمةَ الإلهيَّةَ التي شُرِعتِ الشرائعُ لأجلِها.
وقد ذكَرَ أهلُ العلمِ بعضَ الأمثلةِ التي تتعطَّلُ فيها المصالحُ الدنيويَّةُ عند تركِ الأخذِ بالظنونِ بالكلِّيَّةِ؛ فمِن ذلك:
1- المسافرُ: مع أنه قبل سفَرِهِ يكونُ لدَيْهِ احتمالٌ أن يَهلِكَ، ويَفْنى مالُهُ، فهو يَبْني قرارَهُ على الاحتمالِ الأقوى الغالبِ، وهو السلامةُ، ولا يَبْنيهِ على الاحتمالِ النادرِ، وهو الهلاكُ، ولو فكَّر بطريقةِ: «أنه لن يسافِرَ إلا إذا تيقَّن يقينًا لا شَكَّ فيه بنجاتِه»، فلن يسافِرَ أحدٌ، وستتعطَّلُ المصالحُ والتِّجاراتُ والأعمال. 
2- لو أن أحدًا لازَمَ بيتَهُ طِيلةَ عُمُرِه، في حالةِ طبيعيَّةٍ، فقيل له: لماذا لا تخرُجُ؟ فقال: «إنني أخشى أن تَصدِمَني سيَّارةٌ، أو يخرُجَ لي لِصٌّ فيقتُلَني»، لكان هذا القرارُ الذي اتَّخَذَهُ بناءً على ظنٍّ نادرٍ: دليلًا على فِقدانِهِ لعقلِه، أو جنونِه. 
3- وكذلك مَن كان مطارَدًا مِن أعدائِه، وكان أعداؤُهُ في الخارجِ ينتظِرونه، ويتربَّصون به، وهو - مع ذلك - يخرُجُ إليهم بناءً على ظَنٍّ نادرٍ، وهو أن يغفُلوا عنه، يُعَدُّ هذا الرجُلُ مِن الحَمْقى المهلِكينَ أنفُسَهم.
فنحن نَرَى في هذه الحالاتِ أن الناسَ يعتمِدون في اتِّخاذِ قراراتِهم في مصالحِهم على ظنونٍ غالبةٍ، ولو انتظَروا القطعَ واليقينَ في كلِّ شيءٍ، لتعطَّلتْ مصالحُهم.
فالأخذُ بالنصوصِ الظنِّيَّةِ معناه: أن الشريعةَ ترتِّبُ العملَ على الرواياتِ التي يُحتمَلُ السهوُ والخطأُ على رواتِها؛ على اعتبارِ رجحانِ ثبوتِها، وندرةِ توقُّعِ الخطأِ فيها؛ وهذا أمرٌ متناسِقٌ مع تصرُّفاتِ الشريعةِ في سائرِ الأبواب، ومتناغِمٌ أيضًا مع طبائعِ البشَرِ في تحقيقِ مصالِحهم.

مختصر الجواب

مضمونُ السؤال:
يريدُ السائلُ أن يَعرِفَ كيف يَعمَلُ بالسنَّةِ النبويَّةِ مع أنها غيرُ قطعيَّة؛ بدليلِ أن الاختلافَ واقعٌ بين علماءِ الحديثِ في كثيرٍ مِن الأحاديث؛ فهو ينطلِقُ في سؤالِهِ لا مِن إنكارِ حجِّيَّةِ السنَّةِ ابتداءً، وإنما مِن التوقُّفِ عن إثباتِها؛ نظرًا للخلافِ فيها. 
مختصَرُ الإجابة:
القولُ بأن السنَّةَ النبويَّةَ ظنِّيَّةُ الثبوت، وأنها مَحَلُّ اختلافٍ في الثبوتِ -: خطأٌ، بل كثيرٌ منها متواتِرٌ تواتُرًا معنويًّا، وكثيرٌ مِن الأحكامِ على الأحاديثِ مجمَعٌ عليه بين المحدِّثين؛ حيثُ أجمَعَ العلماءُ على تصحيحِ أحاديثَ وتلقِّيها بالقَبول؛ كما أجمَعوا على وضعِ أحاديثَ ورَدِّها، وجمهورُ الأحاديثِ الواردةِ في «صحيحَيِ البخاريِّ ومسلِمٍ» مثلًا هي أحاديثُ مُجمَعٌ على صحَّتِها، تلقَّتْها الأمَّةُ بالقَبول، وهي تُفيدُ العِلمَ، وليس ثبوتُها ظنِّيًّا؛ لأن إجماعَ الأمَّةِ معصومٌ؛ كما أن حِفظَ اللهِ للدِّينِ يستلزِمَ إفادةَ هذه الأحاديثِ لليقينِ دون الظنّ.
وأما ما اختَلَفوا فيه، فاختلافُهم له أسبابٌ علميَّةٌ منهجيَّةٌ، لا مِن أجلِ الهوى والتشهِّي. 
وورودُ الظنِّ في السنَّةِ الصحيحةِ - على القولِ بأنه لا يُفيدُ العلمَ واليقين، وأن غايتَهُ أن يفيدَ الظنَّ - ليس معناه أكثرَ مِن ورودِ احتمالِ الخطأِ والسهوِ على راوٍ مِن رواةِ الحديثِ الصحيح؛ وهذا الاحتمالُ النادرُ الضعيفُ، لا يُؤخَذُ به في مقابِلِ الاحتمالِ الراجحِ القويِّ، كما تقتضيهِ المنهجيَّةُ العلميَّةُ؛ مِن تقديمِ الراجحِ على المرجوح، والعمَلِ بالراجحِ دون المرجوح؛ ففي مِثلِ ذلك: فإن صحَّةَ الإسنادِ (أو حُسْنَهُ) كافيةٌ لوجوبِ العمَلِ به، ولا يُشترَطُ القطعُ.
بل طبائعُ الناسِ وعاداتُهم في تحصيلِ مصالِحِهم الدينيَّةِ والدنيويَّةِ، تدُلُّ أن تركَ الأخذِ بالظنونِ الراجِحةِ بالكلِّيَّةِ يؤدِّي إلى فسادِ حياتِهم وتعطُّلِها؛ فلو لم يعتمِدِ الناسُ في اتِّخاذِ قراراتِهم في مصالحِهم على الظنونِ الغالبةِ، وانتظَروا القطعَ واليقينَ في كلِّ شيءٍ، لتعطَّلتْ مصالحُهم.
أما ورودُ الظنِّ في السنَّةِ مِن جهةِ الدَّلالةِ: فهذا واردٌ أيضًا في نصوصِ القرآنِ الكريم، ويُتعامَلُ معه وَفْقَ علمِ أصولِ الفقه؛ وهو خلافُ الأصلِ والغالب. 

خاتمة الجواب

خاتِمةُ الجواب - توصية:
فأصولُ الدِّينِ ثبَتتْ بالتواتُرِ، وهي قطعيَّةٌ؛ وهي مَحَلُّ الخصومةِ مع المعارِضين للشريعة.
وقد ذكَرَ العلماءُ: أن عامَّةَ الأحاديثِ التي يُحتَجُّ بها في مواردِ النزاعِ لا يخرُجُ عن القسمِ المتواترِ لفظًا ومعنًى، وقسمِ المستفيضِ المتلقَّى بالقَبول، وأما أحاديثُ الأصولِ الكبارِ التي بها يُميَّزُ أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ عن غيرهم: فهي مِن قسمِ المتواتِرِ لفظًا ومعنًى.
وحتى بقيَّةُ مسائلِ الدِّينِ التي قيل: «إنها بأدلَّةٍ ظنِّيَّةٍ»، فهذا الظنُّ يُعمَلُ به كما سبَقَ، وكثيرٌ مِن الشُّبَهِ المقدَّمةِ ضدَّ السنَّةِ النبويَّةِ: لو اطَّرَدَ القائلُ بها، فلن تكونَ هناك ثقةٌ في أيِّ علمٍ، ولا في أيِّ تعامُلٍ دينيٍّ أو دنيويٍّ؛ لقيامِها على الظنِّ أيضًا.

مختصر الجواب

مضمونُ السؤال:
يريدُ السائلُ أن يَعرِفَ كيف يَعمَلُ بالسنَّةِ النبويَّةِ مع أنها غيرُ قطعيَّة؛ بدليلِ أن الاختلافَ واقعٌ بين علماءِ الحديثِ في كثيرٍ مِن الأحاديث؛ فهو ينطلِقُ في سؤالِهِ لا مِن إنكارِ حجِّيَّةِ السنَّةِ ابتداءً، وإنما مِن التوقُّفِ عن إثباتِها؛ نظرًا للخلافِ فيها. 
مختصَرُ الإجابة:
القولُ بأن السنَّةَ النبويَّةَ ظنِّيَّةُ الثبوت، وأنها مَحَلُّ اختلافٍ في الثبوتِ -: خطأٌ، بل كثيرٌ منها متواتِرٌ تواتُرًا معنويًّا، وكثيرٌ مِن الأحكامِ على الأحاديثِ مجمَعٌ عليه بين المحدِّثين؛ حيثُ أجمَعَ العلماءُ على تصحيحِ أحاديثَ وتلقِّيها بالقَبول؛ كما أجمَعوا على وضعِ أحاديثَ ورَدِّها، وجمهورُ الأحاديثِ الواردةِ في «صحيحَيِ البخاريِّ ومسلِمٍ» مثلًا هي أحاديثُ مُجمَعٌ على صحَّتِها، تلقَّتْها الأمَّةُ بالقَبول، وهي تُفيدُ العِلمَ، وليس ثبوتُها ظنِّيًّا؛ لأن إجماعَ الأمَّةِ معصومٌ؛ كما أن حِفظَ اللهِ للدِّينِ يستلزِمَ إفادةَ هذه الأحاديثِ لليقينِ دون الظنّ.
وأما ما اختَلَفوا فيه، فاختلافُهم له أسبابٌ علميَّةٌ منهجيَّةٌ، لا مِن أجلِ الهوى والتشهِّي. 
وورودُ الظنِّ في السنَّةِ الصحيحةِ - على القولِ بأنه لا يُفيدُ العلمَ واليقين، وأن غايتَهُ أن يفيدَ الظنَّ - ليس معناه أكثرَ مِن ورودِ احتمالِ الخطأِ والسهوِ على راوٍ مِن رواةِ الحديثِ الصحيح؛ وهذا الاحتمالُ النادرُ الضعيفُ، لا يُؤخَذُ به في مقابِلِ الاحتمالِ الراجحِ القويِّ، كما تقتضيهِ المنهجيَّةُ العلميَّةُ؛ مِن تقديمِ الراجحِ على المرجوح، والعمَلِ بالراجحِ دون المرجوح؛ ففي مِثلِ ذلك: فإن صحَّةَ الإسنادِ (أو حُسْنَهُ) كافيةٌ لوجوبِ العمَلِ به، ولا يُشترَطُ القطعُ.
بل طبائعُ الناسِ وعاداتُهم في تحصيلِ مصالِحِهم الدينيَّةِ والدنيويَّةِ، تدُلُّ أن تركَ الأخذِ بالظنونِ الراجِحةِ بالكلِّيَّةِ يؤدِّي إلى فسادِ حياتِهم وتعطُّلِها؛ فلو لم يعتمِدِ الناسُ في اتِّخاذِ قراراتِهم في مصالحِهم على الظنونِ الغالبةِ، وانتظَروا القطعَ واليقينَ في كلِّ شيءٍ، لتعطَّلتْ مصالحُهم.
أما ورودُ الظنِّ في السنَّةِ مِن جهةِ الدَّلالةِ: فهذا واردٌ أيضًا في نصوصِ القرآنِ الكريم، ويُتعامَلُ معه وَفْقَ علمِ أصولِ الفقه؛ وهو خلافُ الأصلِ والغالب. 

الجواب التفصيلي

الجوابُ التفصيليّ: 
يتبيَّنُ الجوابُ عن سؤالِ ظَنِّيَّةِ السنَّةِ على جهةِ التفصيلِ مِن خلالِ النقاطِ الآتية:
1- السنَّةُ النبويَّةُ فيها قسمٌ كبيرٌ أجمَعَ المحدِّثون على صِحَّتِهِ وتلقِّيهِ بالقَبول:
فنحنُ لا نسلِّمُ أن النصوصَ الدالَّةَ على ما تَحْتاجُ إليه الأمَّةُ في شؤونِ عقائدِها ومعامَلاتِها وعباداتِها قد اختلَفَ المحدِّثون فيها تصحيحًا وتضعيفًا، بل أهلُ الحديثِ يُجمِعون على تصحيحِ أحاديثَ تواتَرتْ عندهم؛ كأحاديثِ سجودِ السهو، ووجوبِ الشُّفْعة، وحملِ العاقلةِ العَقْلَ، ورجمِ الزاني المحصَن، وأحاديثِ الرؤيةِ، والنزولِ الإلهيِّ، وعذابِ القبر، والحوضِ والشفاعةِ، وأمثالِ ذلك، وإن لم تكن تلك الأحاديثُ قد تواتَرتْ عند غيرِهم؛ فهذه الأحاديثُ كلُّها قطعيَّةٌ تُفيدُ العِلمَ.
وجمهورُ الأحاديثِ الواردةِ في «صحيحَيِ البخاريِّ ومسلِمٍ» مثلًا هي أحاديثُ مُجمَعٌ على صحَّتِها، تلقَّتْها الأمَّةُ بالقَبول، وهي تُفيدُ العِلمَ، وليس ثبوتُها ظنِّيًّا؛ لأن إجماعَ الأمَّةِ معصومٌ؛ كما أن حِفظَ اللهِ للدِّينِ يستلزِمَ إفادةَ هذه الأحاديثِ لليقينِ دون الظنّ.
2- ما اختلَفَ فيه المحدِّثون تصحيحًا وتضعيفًا له أسبابٌ علميَّةٌ:
فنحن نَعلَمُ أن لقَبولِ الأحاديثِ وردِّها ضوابطَ وشروطًا، وهذه الشروطُ بعضُها متَّفَقٌ عليه، وبعضُها مختلَفٌ فيه؛ فالعلماءُ يختلِفون مثَلًا في روايةِ المجهول، وفي روايةِ المبتدِع، وفي روايةِ مَن يأخُذُ أجرةً على التحديث، إلى غيرِ ذلك مِن المسائلِ المعروفةِ في عِلمِ «مصطلَحِ الحديث».
والاحتجاجُ بمجرَّدِ الاختلافِ على إبطالِ منهجيَّةِ المحدِّثين بالكلِّيَّةِ هو منهجٌ فاسدٌ، ولو طبَّقناهُ في كلِّ العلومِ، لبَطَلتْ جميعُها؛ فالفقهاءُ يختلِفون، وليس ذلك بمُوجِبٍ للإعراضِ عن الفقهِ بالكلِّيَّة، والمفسِّرون يختلِفون، وليس ذلك بموجِبٍ للإعراضِ عن التفسيرِ بالكلِّيَّة، بل هذا مَدخَلٌ للسَّفْسَطةِ (وهي: جَحْدُ الحقائقِ الضروريَّة)؛ فالسُّوفُسْطائيُّون المنكِرون لثبوتِ أيَّةِ حقيقةٍ، وأيَّةِ معرفةٍ، أخَذوا أوَّلَ أسلِحَتِهم مِن وقوعِ الاختلافِ بين آراءِ العقلاءِ - بل بين آراءِ عاقلٍ واحدٍ في أزمنةٍ مختلِفةٍ - فأنكَروا وجودَ الحقيقةِ فيما اتَّفَقوا عليه أيضًا، وفيما ثبَتوا فيه أيضًا!
3- ولو فُرِضَتْ ظنِّيَّةُ بعضِ ما ورَدَ في السنَّةِ النبويَّةِ، فإن صحَّةَ الإسنادِ (أو حُسْنَهُ) كافيةٌ لوجوبِ العمَلِ به، ولا يُشترَطُ القطعُ:
فصاحبُ السؤالِ قد يقولُ: «إنني لا أَقصِدُ مِن القولِ بظنِّيَّةِ السنَّةِ إبطالَها ورَدَّها بالكلِّيَّة، وإنما أتعجَّبُ كيف تكونُ ظنِّيَّةً، ومع ذلك نحنُ مأمورون بالعمَلِ بها»؛ فحينئذٍ يقالُ له:
كَذِبُ الظنونِ نادرٌ، وصِدقُها غالبٌ، فلو تُرِكَ العملُ بالظنونِ خوفًا مِن وقوعِ الاحتمالاتِ النادرةِ التي تَكذِبُ فيها تلك الظنونُ، لتعطَّلتْ مصالحُ كثيرةٌ غالبةٌ، خوفًا مِن وقوعِ مفاسدَ قليلةٍ نادرةٍ؛ وهذا يخالِفُ الحكمةَ الإلهيَّةَ التي شُرِعتِ الشرائعُ لأجلِها.
وقد ذكَرَ أهلُ العلمِ بعضَ الأمثلةِ التي تتعطَّلُ فيها المصالحُ الدنيويَّةُ عند تركِ الأخذِ بالظنونِ بالكلِّيَّةِ؛ فمِن ذلك:
1- المسافرُ: مع أنه قبل سفَرِهِ يكونُ لدَيْهِ احتمالٌ أن يَهلِكَ، ويَفْنى مالُهُ، فهو يَبْني قرارَهُ على الاحتمالِ الأقوى الغالبِ، وهو السلامةُ، ولا يَبْنيهِ على الاحتمالِ النادرِ، وهو الهلاكُ، ولو فكَّر بطريقةِ: «أنه لن يسافِرَ إلا إذا تيقَّن يقينًا لا شَكَّ فيه بنجاتِه»، فلن يسافِرَ أحدٌ، وستتعطَّلُ المصالحُ والتِّجاراتُ والأعمال. 
2- لو أن أحدًا لازَمَ بيتَهُ طِيلةَ عُمُرِه، في حالةِ طبيعيَّةٍ، فقيل له: لماذا لا تخرُجُ؟ فقال: «إنني أخشى أن تَصدِمَني سيَّارةٌ، أو يخرُجَ لي لِصٌّ فيقتُلَني»، لكان هذا القرارُ الذي اتَّخَذَهُ بناءً على ظنٍّ نادرٍ: دليلًا على فِقدانِهِ لعقلِه، أو جنونِه. 
3- وكذلك مَن كان مطارَدًا مِن أعدائِه، وكان أعداؤُهُ في الخارجِ ينتظِرونه، ويتربَّصون به، وهو - مع ذلك - يخرُجُ إليهم بناءً على ظَنٍّ نادرٍ، وهو أن يغفُلوا عنه، يُعَدُّ هذا الرجُلُ مِن الحَمْقى المهلِكينَ أنفُسَهم.
فنحن نَرَى في هذه الحالاتِ أن الناسَ يعتمِدون في اتِّخاذِ قراراتِهم في مصالحِهم على ظنونٍ غالبةٍ، ولو انتظَروا القطعَ واليقينَ في كلِّ شيءٍ، لتعطَّلتْ مصالحُهم.
فالأخذُ بالنصوصِ الظنِّيَّةِ معناه: أن الشريعةَ ترتِّبُ العملَ على الرواياتِ التي يُحتمَلُ السهوُ والخطأُ على رواتِها؛ على اعتبارِ رجحانِ ثبوتِها، وندرةِ توقُّعِ الخطأِ فيها؛ وهذا أمرٌ متناسِقٌ مع تصرُّفاتِ الشريعةِ في سائرِ الأبواب، ومتناغِمٌ أيضًا مع طبائعِ البشَرِ في تحقيقِ مصالِحهم.

خاتمة الجواب

خاتِمةُ الجواب - توصية:
فأصولُ الدِّينِ ثبَتتْ بالتواتُرِ، وهي قطعيَّةٌ؛ وهي مَحَلُّ الخصومةِ مع المعارِضين للشريعة.
وقد ذكَرَ العلماءُ: أن عامَّةَ الأحاديثِ التي يُحتَجُّ بها في مواردِ النزاعِ لا يخرُجُ عن القسمِ المتواترِ لفظًا ومعنًى، وقسمِ المستفيضِ المتلقَّى بالقَبول، وأما أحاديثُ الأصولِ الكبارِ التي بها يُميَّزُ أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ عن غيرهم: فهي مِن قسمِ المتواتِرِ لفظًا ومعنًى.
وحتى بقيَّةُ مسائلِ الدِّينِ التي قيل: «إنها بأدلَّةٍ ظنِّيَّةٍ»، فهذا الظنُّ يُعمَلُ به كما سبَقَ، وكثيرٌ مِن الشُّبَهِ المقدَّمةِ ضدَّ السنَّةِ النبويَّةِ: لو اطَّرَدَ القائلُ بها، فلن تكونَ هناك ثقةٌ في أيِّ علمٍ، ولا في أيِّ تعامُلٍ دينيٍّ أو دنيويٍّ؛ لقيامِها على الظنِّ أيضًا.