نص السؤال

ورَدَ في «صحيحِ البخاريِّ» خبَرٌ عن محاوَلةِ النبيِّ ﷺ الانتحارَ؛ وهذا يؤيِّدُ مَزاعِمَ أعداءِ الإسلامِ بأن ما كان يظُنُّهُ النبيُّ ﷺ وحيًا، إنما هو في الحقيقةِ صَرَعٌ كان يُصِيبُه؛ فإن محاوَلةَ الانتحارِ مِن أعراضِ الإصابةِ بالصَّرَعِ؛ فكيف يكونُ «صحيحُ البخاريِّ» مَرجِعًا للأمَّةِ، وهو يتضمَّنُ مِثلَ هذه الرواية؟

المؤلف: باحثو مركز أصول

المصدر: مركز أصول

عبارات مشابهة للسؤال

هل صحيحٌ أن النبيَّ ﷺ حاوَلَ الانتحارَ؟

الجواب التفصيلي

الجوابُ التفصيليّ:
هذه الشبهةُ تعبِّرُ عن قراءةٍ خاطئةٍ لروايةٍ منقطِعةٍ جاءت في «صحيحِ البخاريِّ»، نتَجَ عن تلك القراءةِ الظنُّ بأن «صحيحَ البخاريِّ» يَحْوي ما يؤيِّدُ فِرَى أعداءِ الإسلامِ مِن النصارى والمَلاحِدةِ، وأكاذيبَهم ضِدَّ النبيِّ ﷺ.
والاستشكالُ الواردُ في السؤالِ يتضمَّنُ الحاجةَ لمعرفةِ المدلولِ الصحيحِ لِمَا جاء في «صحيحِ البخاريِّ» (6982)،

مِن قولِ الإمامِ محمَّدِ بنِ مسلِمِ بنِ شِهابٍ الزُّهْريِّ:

«وَفَتَرَ الْوَحْيُ فَتْرَةً حَتَّى حَزِنَ النَّبِيُّ ﷺ - فِيمَا بَلَغَنَا - حُزْنًا غَدَا مِنْهُ مِرَارًا؛ كَيْ يَتَرَدَّى مِنْ رُؤُوسِ شَوَاهِقِ الجِبَالِ، فَكُلَّمَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ لِكَيْ يُلْقِيَ مِنْهُ نَفْسَهُ، تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّكَ رَسُولُ اللهِ حَقًّا، فَيَسْكُنُ لِذَلِكَ جَأْشُهُ، وَتَقِرُّ نَفْسُهُ، فَيَرْجِعُ، فَإِذَا طَالَتْ عَلَيْهِ فَتْرَةُ الوَحْيِ، غَدَا لِمِثْلِ ذَلِكَ، فَإِذَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ، تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ»


إن روايةَ أهلِ الحديثِ لِمَا يَعُدُّهُ الطاعِنون في السُّنَّةِ تأييدًا لمقالاتِ أهلِ الإلحاد، أمرٌ يَعرِفُهُ مَن له علمٌ يسيرٌ بهذا الفنِّ - وإن خَفِيَ على بعضِ العامَّةِ - والنظرُ المُنصِفُ في ذلك يدُلُّكَ على أن ذلك مِن النقاطِ التي تُحسَبُ لأهلِ الحديثِ، لا عليهم؛ وقد قال وكيعٌ: «أَهْلُ السُّنَّةِ يَرْوُونَ مَا لَهُمْ وَمَا عَلَيْهِمْ, وَأَهْلُ الْبِدْعَةِ لَا يَرْوُونَ إِلَّا مَا لَهُمْ»؛ رواه الدارَقُطْنيُّ في «سننِه» (1/ 27)، وأبو نُعَيمٍ في «تاريخِ أَصبَهان» (1/ 443).
وأهلُ الحديثِ يؤدُّون الأمانةَ، ويحُثُّون على طلبِ الحديثِ، ثم هم - مع ذلك - يحذِّرون أشدَّ التحذيرِ أن تكونَ الغايةُ مِن ذلك الطَّلَبِ تقويةَ الهَوَى - سواءٌ كان ذلك الهَوَى كفرًا أو ضلالةً أو بدعةً - فيَهلِكُ مَن هلَكَ عن بيِّنةٍ، ويَحيَا مَن حَيَّ عن بيِّنةٍ.
والجوابُ عن هذه الشبهةِ تفصيلًا مِن وجوهٍ:
1- أن البخاريَّ رواها عن الزُّهْريِّ؛ فهي صحيحةُ الإسنادِ إلى الزُّهْريِّ، ولكنَّ الزُّهْريَّ صرَّح بنفسِهِ بانقطاعِ الرواية:
وأخبَرَ أن ذلك بلَغَهُ، ولم يقُلْ: إن ذلك وقَعَ؛ فهو يُخبِرُ أنه (بلاغٌ)؛ وهو مصطلَحٌ يفيدُ بأن الروايةَ منقطِعة.
فالبخاريُّ ناقلٌ أمينٌ، ونقلُهُ ثابتٌ عن الزُّهْريِّ؛ فهو قد أدَّى ما عليه، وليس عليه أيُّ طعنٍ بذلك، وبَقِيَ الكلامُ في صحَّةِ الحديثِ بعد الزُّهْريِّ، وقد أقَرَّ الزُّهْريُّ بانقطاعِ الحديث، وأنها أمرٌ نُقِلَ بغيرِ إسنادٍ يُنسَبُ له.
والإقرارُ بكونِ الروايةِ غيرَ متصِلةِ الإسناد، وأنها مِن بَلاغاتِ الإمامِ الزُّهْريِّ - والتي يقرِّرُ أئمَّةُ الحديثِ مِن قديمٍ؛ كالشافعيِّ، وأبي جَعفَرٍ العُقَيليِّ: ضَعْفَها وعدَمَ قَبولِها - هو مُوجَبُ الصَّنْعةِ الحديثيَّةِ التخصُّصيَّة.
ولا يعني ذلك: أن تلك الروايةَ تَقدَحُ في الإمامِ محمَّدِ بنِ مسلِمِ بنِ شِهابٍ الزُّهْريِّ الذي ذكَرَها، ولا في الإمامِ البخاريِّ الذي أثبَتَها في «صحيحِه»، ولا في الإمامِ أبي بكرٍ الإسماعيليِّ الذي رَدَّ على الطاعِنينَ في النبوَّةِ بسببِها؛ بل هي روايةٌ نُقِلَتْ كما هي بغضِّ النظَرِ عن العواملِ الأخرى.
2- ليس كلُّ ما يتوهَّمُ منه متوهِّمٌ قدحًا في مقامِ النبوَّةِ، يجبُ الكفُّ عن روايتِهِ وذِكرِهِ وشرحِه:
وإلا لوجَبَ الكفُّ عن روايةِ كثيرٍ مِن الأحاديثِ المتَّفَقِ على صحَّتِها، بل الكفُّ عن قراءةِ بعضِ الآياتِ مِن أجلِ أوهامِ المتوهِّمين.
والقادِحون الطاعِنون في النبيِّ ﷺ قدَحوا في جزءٍ مِن الحديثِ متَّفَقٍ على اتِّصالِهِ إلى عائشةَ رضيَ اللهُ عنها، ولم يقصُرُوا الطعنَ على ما رواهُ الزُّهْريُّ بلاغًا، وهو شكوى النبيِّ ﷺ لخَدِيجةَ رضيَ اللهُ عنها، وقولُهُ: «لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي»، وذَهابُها به إلى وَرَقةَ بنِ نَوفَلٍ، وجعَلوا ذلك دليلًا على شكِّ النبيِّ ﷺ في نبوَّتِه.
والواجبُ في الجميعِ: أن تُبيَّنَ صحَّتُهُ مِن عدمِها، وإذا صَحَّ، تُبيَّنُ دَلالتُهُ الصحيحةُ، لا أن يُقدَحَ في أئمَّةِ الحديثِ بسببِه.
3- سلامةُ قُوَى النبيِّ ﷺ العقليَّةِ مما شَهِدَ به العقلاءُ في مختلِفِ العصور، ومنها العصرُ الحديث:
فإن تزكيةَ اللهِ تعالى لنبيِّه ﷺ رُوحًا وجِسمًا، أمرٌ متواتِرٌ لا يُمكِنُ دفعُه، وهو مما أقَرَّ به بعضُ الغربيِّين؛ مثلُ «ول دِيُورَانْت» في كتابِهِ: «قصَّةِ الحضارة».
وقد كان القولُ بصَرَعِ النبيِّ ﷺ يُتداوَلُ أحيانًا عند بعضِ الكُتَّابِ البِيزَنْطيِّين، الذين كانوا أداةَ التشويهِ الرئيسةَ التي تعرَّف الغربيُّون لأجيالٍ طويلةٍ على الإسلامِ مِن خلالِها، خاصَّةً (ثيوفانس) الذي يقولُ فيه (جُوسْتاف بفانموللر): «وَسَاطةٌ لا يُوثَقُ بها إلا قليلًا»، وإلى هذا الأخيرِ تَرجِعُ غالبيَّةُ الأساطيرِ التي قِيلَتْ عن محمَّدٍ ﷺ في العصورِ الوسطى.
4- الروايةُ لو صحَّت - ولا تَصِحُّ - لا تدُلُّ على شكِّ النبيِّ ﷺ في نبوَّتِه:
فهو إنما وقَفَ على رؤوسِ الجبَلِ ولم يُسقِطْ نفسَهُ، وغايتُهُ تمنِّي وقوعِ ذلك مِن غيرِهِ مما يعتري النفسَ البشريَّةَ أحيانًا ولكنها لا تَعمَلُ به.
وقد يُحمَلُ أنه فعَلَ ذلك لثِقَلٍ لمَّا أحرَجه تكذيبُ مَن بلَّغه؛ كما قال تعالى:

{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}

[الكهف: 6]

أي: مُهلِكُها وقاتِلُها.
أو يُحمَلُ على أنه ﷺ خاف أن الفترةَ لأمرٍ أو سببٍ منه؛ فخَشِيَ أن تكونَ عقوبةً مِن ربِّه؛ ففعَلَ ذلك بنفسِهِ ينتظِرُ ما يَفعَلُ به ربُّه.
وأيضًا: لم يَرِدْ حتى ذلك الوقتِ شرعٌ بالنهيِ عن ذلك، فيُعترَضَ به؛ فإن ذلك كان في أوَّلِ البَعْثةِ، وقبل نزولِ الشرائع؛ ونحوُ هذا فِرارُ يونسَ عليه السلامُ خشيةَ تكذيبِ قومِهِ له؛ لِمَا وعَدَهم به مِن العذاب.
والأنبياءُ لا يمتنِعُ عليهم أن يظُنُّوا شيئًا بطريقِ الاجتهادِ منهم؛ فيكونُ الأمرُ بخلافِ ما ظنُّوه، ثم يبيِّنُ اللهُ لهم الأمرَ على جليَّتِه؛ وهذا كلُّه على فرضِ صِحَّةِ هذا البلاغ، ولم يَصِحَّ كما سبَق.

مختصر الجواب

مضمونُ السؤال:
الطعنُ في «صحيحِ البخاريِّ»، عن طريقِ الطعنِ في بعضِ أحاديثِه.
مختصَرُ الإجابة:
الحديثُ المذكورُ رواه البخاريُّ بما يشيرُ إلى ضعفِهِ أصلًا؛ لأن الراويَ - وهو الزُّهْريُّ - أشار إلى أنه (بلاغٌ)، أي: مجهولُ الراوي؛ فالحديثُ صحيحٌ مِن البخاريِّ إلى الزُّهْريِّ، ولكنَّ الزُّهْريَّ صرَّح بنفسِهِ بانقطاعِ الرواية؛ فالزهريُّ أخبَرَ أنه بلاغٌ، أي: ضعيفٌ؛ فليس على البخاريِّ أيُّ طعنٍ بذلك.
كما أنه ليس كلُّ ما يتوهَّمُ منه متوهِّمٌ قدحًا في مقامِ النبوَّةِ، يجبُ الكفُّ عن روايتِهِ وذِكرِهِ وشرحِه؛ وإلا لوجَبَ الكفُّ عن روايةِ كثيرٍ مِن الأحاديثِ المتَّفَقِ على صحَّتِها، بل الكفُّ عن قراءةِ بعضِ الآياتِ؛ مِن أجلِ أوهامِ المتوهِّمين، كما أن سلامةَ قُوَى النبيِّ ﷺ العقليَّةِ مما شَهِدَ به العقلاءُ في مختلِفِ العصور، ومنها الغربيُّون في العصرِ الحديث.
ثم ليس في تلك الروايةِ ما يؤيِّدُ قولَ النصارى: بأن ما كان يظُنُّهُ النبيُّ ﷺ وحيًا، إنما هو صَرَعٌ، بل لو صحَّت الروايةُ - ولا تَصِحُّ - فلا تدُلُّ على شكِّ النبيِّ ﷺ في نبوَّتِه؛ وإنما فيها إشارةٌ إلى شدَّةِ ثِقَلِ النبوَّةِ في أوَّلِها، ولا تعدو ذلك.

خاتمة الجواب

خاتِمةُ الجواب - توصية: وعلى كلِّ حالٍ: فصحَّةُ «صحيحِ البخاريِّ» ثابتةٌ بأدلَّةٍ ظاهرة، وهذه الروايةُ تدُلُّ على أمانةِ البخاريِّ، وزيادةِ الثقةِ في «صحيحِه»؛ لأن هذه الروايةَ التي فيها شكٌّ في المعنى، نقَلَها البخاريُّ كما رُوِيَتْ له، وفي الروايةِ أيضًا: ما يدُلُّ أنها نُقِلَتْ أيضًا بسندٍ فيه شكٌّ، وأنها بلاغٌ منقطِعٌ، وهو نقَلَ كلَّ ذلك بصدقٍ وأمانة؛ فلا مَطعَنَ في البخاريِّ بذلك، فضلًا عن الطعنِ في عمومِ السنَّة.

مختصر الجواب

مضمونُ السؤال:
الطعنُ في «صحيحِ البخاريِّ»، عن طريقِ الطعنِ في بعضِ أحاديثِه.
مختصَرُ الإجابة:
الحديثُ المذكورُ رواه البخاريُّ بما يشيرُ إلى ضعفِهِ أصلًا؛ لأن الراويَ - وهو الزُّهْريُّ - أشار إلى أنه (بلاغٌ)، أي: مجهولُ الراوي؛ فالحديثُ صحيحٌ مِن البخاريِّ إلى الزُّهْريِّ، ولكنَّ الزُّهْريَّ صرَّح بنفسِهِ بانقطاعِ الرواية؛ فالزهريُّ أخبَرَ أنه بلاغٌ، أي: ضعيفٌ؛ فليس على البخاريِّ أيُّ طعنٍ بذلك.
كما أنه ليس كلُّ ما يتوهَّمُ منه متوهِّمٌ قدحًا في مقامِ النبوَّةِ، يجبُ الكفُّ عن روايتِهِ وذِكرِهِ وشرحِه؛ وإلا لوجَبَ الكفُّ عن روايةِ كثيرٍ مِن الأحاديثِ المتَّفَقِ على صحَّتِها، بل الكفُّ عن قراءةِ بعضِ الآياتِ؛ مِن أجلِ أوهامِ المتوهِّمين، كما أن سلامةَ قُوَى النبيِّ ﷺ العقليَّةِ مما شَهِدَ به العقلاءُ في مختلِفِ العصور، ومنها الغربيُّون في العصرِ الحديث.
ثم ليس في تلك الروايةِ ما يؤيِّدُ قولَ النصارى: بأن ما كان يظُنُّهُ النبيُّ ﷺ وحيًا، إنما هو صَرَعٌ، بل لو صحَّت الروايةُ - ولا تَصِحُّ - فلا تدُلُّ على شكِّ النبيِّ ﷺ في نبوَّتِه؛ وإنما فيها إشارةٌ إلى شدَّةِ ثِقَلِ النبوَّةِ في أوَّلِها، ولا تعدو ذلك.

الجواب التفصيلي

الجوابُ التفصيليّ:
هذه الشبهةُ تعبِّرُ عن قراءةٍ خاطئةٍ لروايةٍ منقطِعةٍ جاءت في «صحيحِ البخاريِّ»، نتَجَ عن تلك القراءةِ الظنُّ بأن «صحيحَ البخاريِّ» يَحْوي ما يؤيِّدُ فِرَى أعداءِ الإسلامِ مِن النصارى والمَلاحِدةِ، وأكاذيبَهم ضِدَّ النبيِّ ﷺ.
والاستشكالُ الواردُ في السؤالِ يتضمَّنُ الحاجةَ لمعرفةِ المدلولِ الصحيحِ لِمَا جاء في «صحيحِ البخاريِّ» (6982)،

مِن قولِ الإمامِ محمَّدِ بنِ مسلِمِ بنِ شِهابٍ الزُّهْريِّ:

«وَفَتَرَ الْوَحْيُ فَتْرَةً حَتَّى حَزِنَ النَّبِيُّ ﷺ - فِيمَا بَلَغَنَا - حُزْنًا غَدَا مِنْهُ مِرَارًا؛ كَيْ يَتَرَدَّى مِنْ رُؤُوسِ شَوَاهِقِ الجِبَالِ، فَكُلَّمَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ لِكَيْ يُلْقِيَ مِنْهُ نَفْسَهُ، تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّكَ رَسُولُ اللهِ حَقًّا، فَيَسْكُنُ لِذَلِكَ جَأْشُهُ، وَتَقِرُّ نَفْسُهُ، فَيَرْجِعُ، فَإِذَا طَالَتْ عَلَيْهِ فَتْرَةُ الوَحْيِ، غَدَا لِمِثْلِ ذَلِكَ، فَإِذَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ، تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ»


إن روايةَ أهلِ الحديثِ لِمَا يَعُدُّهُ الطاعِنون في السُّنَّةِ تأييدًا لمقالاتِ أهلِ الإلحاد، أمرٌ يَعرِفُهُ مَن له علمٌ يسيرٌ بهذا الفنِّ - وإن خَفِيَ على بعضِ العامَّةِ - والنظرُ المُنصِفُ في ذلك يدُلُّكَ على أن ذلك مِن النقاطِ التي تُحسَبُ لأهلِ الحديثِ، لا عليهم؛ وقد قال وكيعٌ: «أَهْلُ السُّنَّةِ يَرْوُونَ مَا لَهُمْ وَمَا عَلَيْهِمْ, وَأَهْلُ الْبِدْعَةِ لَا يَرْوُونَ إِلَّا مَا لَهُمْ»؛ رواه الدارَقُطْنيُّ في «سننِه» (1/ 27)، وأبو نُعَيمٍ في «تاريخِ أَصبَهان» (1/ 443).
وأهلُ الحديثِ يؤدُّون الأمانةَ، ويحُثُّون على طلبِ الحديثِ، ثم هم - مع ذلك - يحذِّرون أشدَّ التحذيرِ أن تكونَ الغايةُ مِن ذلك الطَّلَبِ تقويةَ الهَوَى - سواءٌ كان ذلك الهَوَى كفرًا أو ضلالةً أو بدعةً - فيَهلِكُ مَن هلَكَ عن بيِّنةٍ، ويَحيَا مَن حَيَّ عن بيِّنةٍ.
والجوابُ عن هذه الشبهةِ تفصيلًا مِن وجوهٍ:
1- أن البخاريَّ رواها عن الزُّهْريِّ؛ فهي صحيحةُ الإسنادِ إلى الزُّهْريِّ، ولكنَّ الزُّهْريَّ صرَّح بنفسِهِ بانقطاعِ الرواية:
وأخبَرَ أن ذلك بلَغَهُ، ولم يقُلْ: إن ذلك وقَعَ؛ فهو يُخبِرُ أنه (بلاغٌ)؛ وهو مصطلَحٌ يفيدُ بأن الروايةَ منقطِعة.
فالبخاريُّ ناقلٌ أمينٌ، ونقلُهُ ثابتٌ عن الزُّهْريِّ؛ فهو قد أدَّى ما عليه، وليس عليه أيُّ طعنٍ بذلك، وبَقِيَ الكلامُ في صحَّةِ الحديثِ بعد الزُّهْريِّ، وقد أقَرَّ الزُّهْريُّ بانقطاعِ الحديث، وأنها أمرٌ نُقِلَ بغيرِ إسنادٍ يُنسَبُ له.
والإقرارُ بكونِ الروايةِ غيرَ متصِلةِ الإسناد، وأنها مِن بَلاغاتِ الإمامِ الزُّهْريِّ - والتي يقرِّرُ أئمَّةُ الحديثِ مِن قديمٍ؛ كالشافعيِّ، وأبي جَعفَرٍ العُقَيليِّ: ضَعْفَها وعدَمَ قَبولِها - هو مُوجَبُ الصَّنْعةِ الحديثيَّةِ التخصُّصيَّة.
ولا يعني ذلك: أن تلك الروايةَ تَقدَحُ في الإمامِ محمَّدِ بنِ مسلِمِ بنِ شِهابٍ الزُّهْريِّ الذي ذكَرَها، ولا في الإمامِ البخاريِّ الذي أثبَتَها في «صحيحِه»، ولا في الإمامِ أبي بكرٍ الإسماعيليِّ الذي رَدَّ على الطاعِنينَ في النبوَّةِ بسببِها؛ بل هي روايةٌ نُقِلَتْ كما هي بغضِّ النظَرِ عن العواملِ الأخرى.
2- ليس كلُّ ما يتوهَّمُ منه متوهِّمٌ قدحًا في مقامِ النبوَّةِ، يجبُ الكفُّ عن روايتِهِ وذِكرِهِ وشرحِه:
وإلا لوجَبَ الكفُّ عن روايةِ كثيرٍ مِن الأحاديثِ المتَّفَقِ على صحَّتِها، بل الكفُّ عن قراءةِ بعضِ الآياتِ مِن أجلِ أوهامِ المتوهِّمين.
والقادِحون الطاعِنون في النبيِّ ﷺ قدَحوا في جزءٍ مِن الحديثِ متَّفَقٍ على اتِّصالِهِ إلى عائشةَ رضيَ اللهُ عنها، ولم يقصُرُوا الطعنَ على ما رواهُ الزُّهْريُّ بلاغًا، وهو شكوى النبيِّ ﷺ لخَدِيجةَ رضيَ اللهُ عنها، وقولُهُ: «لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي»، وذَهابُها به إلى وَرَقةَ بنِ نَوفَلٍ، وجعَلوا ذلك دليلًا على شكِّ النبيِّ ﷺ في نبوَّتِه.
والواجبُ في الجميعِ: أن تُبيَّنَ صحَّتُهُ مِن عدمِها، وإذا صَحَّ، تُبيَّنُ دَلالتُهُ الصحيحةُ، لا أن يُقدَحَ في أئمَّةِ الحديثِ بسببِه.
3- سلامةُ قُوَى النبيِّ ﷺ العقليَّةِ مما شَهِدَ به العقلاءُ في مختلِفِ العصور، ومنها العصرُ الحديث:
فإن تزكيةَ اللهِ تعالى لنبيِّه ﷺ رُوحًا وجِسمًا، أمرٌ متواتِرٌ لا يُمكِنُ دفعُه، وهو مما أقَرَّ به بعضُ الغربيِّين؛ مثلُ «ول دِيُورَانْت» في كتابِهِ: «قصَّةِ الحضارة».
وقد كان القولُ بصَرَعِ النبيِّ ﷺ يُتداوَلُ أحيانًا عند بعضِ الكُتَّابِ البِيزَنْطيِّين، الذين كانوا أداةَ التشويهِ الرئيسةَ التي تعرَّف الغربيُّون لأجيالٍ طويلةٍ على الإسلامِ مِن خلالِها، خاصَّةً (ثيوفانس) الذي يقولُ فيه (جُوسْتاف بفانموللر): «وَسَاطةٌ لا يُوثَقُ بها إلا قليلًا»، وإلى هذا الأخيرِ تَرجِعُ غالبيَّةُ الأساطيرِ التي قِيلَتْ عن محمَّدٍ ﷺ في العصورِ الوسطى.
4- الروايةُ لو صحَّت - ولا تَصِحُّ - لا تدُلُّ على شكِّ النبيِّ ﷺ في نبوَّتِه:
فهو إنما وقَفَ على رؤوسِ الجبَلِ ولم يُسقِطْ نفسَهُ، وغايتُهُ تمنِّي وقوعِ ذلك مِن غيرِهِ مما يعتري النفسَ البشريَّةَ أحيانًا ولكنها لا تَعمَلُ به.
وقد يُحمَلُ أنه فعَلَ ذلك لثِقَلٍ لمَّا أحرَجه تكذيبُ مَن بلَّغه؛ كما قال تعالى:

{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}

[الكهف: 6]

أي: مُهلِكُها وقاتِلُها.
أو يُحمَلُ على أنه ﷺ خاف أن الفترةَ لأمرٍ أو سببٍ منه؛ فخَشِيَ أن تكونَ عقوبةً مِن ربِّه؛ ففعَلَ ذلك بنفسِهِ ينتظِرُ ما يَفعَلُ به ربُّه.
وأيضًا: لم يَرِدْ حتى ذلك الوقتِ شرعٌ بالنهيِ عن ذلك، فيُعترَضَ به؛ فإن ذلك كان في أوَّلِ البَعْثةِ، وقبل نزولِ الشرائع؛ ونحوُ هذا فِرارُ يونسَ عليه السلامُ خشيةَ تكذيبِ قومِهِ له؛ لِمَا وعَدَهم به مِن العذاب.
والأنبياءُ لا يمتنِعُ عليهم أن يظُنُّوا شيئًا بطريقِ الاجتهادِ منهم؛ فيكونُ الأمرُ بخلافِ ما ظنُّوه، ثم يبيِّنُ اللهُ لهم الأمرَ على جليَّتِه؛ وهذا كلُّه على فرضِ صِحَّةِ هذا البلاغ، ولم يَصِحَّ كما سبَق.

خاتمة الجواب

خاتِمةُ الجواب - توصية: وعلى كلِّ حالٍ: فصحَّةُ «صحيحِ البخاريِّ» ثابتةٌ بأدلَّةٍ ظاهرة، وهذه الروايةُ تدُلُّ على أمانةِ البخاريِّ، وزيادةِ الثقةِ في «صحيحِه»؛ لأن هذه الروايةَ التي فيها شكٌّ في المعنى، نقَلَها البخاريُّ كما رُوِيَتْ له، وفي الروايةِ أيضًا: ما يدُلُّ أنها نُقِلَتْ أيضًا بسندٍ فيه شكٌّ، وأنها بلاغٌ منقطِعٌ، وهو نقَلَ كلَّ ذلك بصدقٍ وأمانة؛ فلا مَطعَنَ في البخاريِّ بذلك، فضلًا عن الطعنِ في عمومِ السنَّة.