نص السؤال
جاء أن البخاريَّ جمَعَ «صحيحَهُ» مِن ستِّ مئةِ ألفِ حديثٍ، وجاء أن مدَّةَ جمعِهِ هي ستَّ عَشْرةَ سنةً، وهي لا تَكْفي لتنقيحِ ذلك العددِ الضخم، خصوصًا وأن البخاريَّ يدقِّقُ في الروايات، ومِن شرطِهِ العدالةُ والصدقُ، وعدمُ التدليسِ واشتراطُ اللقاء. وبحِسْبةٍ سريعةٍ: فهو يحتاجُ إلى قُرَابةِ خمسَ عَشْرةَ دقيقةً بدونِ انقطاعٍ مِن أكلٍ ونومٍ لكلِّ حديثٍ، وهي غيرُ كافيةٍ لِلِقاءِ الرواةِ وتطبيقِ المعاييرِ؛ فهذا أمرٌ مستحيلٌ غيرُ معقول.
المؤلف: باحثو مركز أصول
المصدر: مركز أصول
عبارات مشابهة للسؤال
هل صحيحٌ أن البخاريَّ جمَعَ «صحيحَهُ» مِن ستِّ مئةِ ألفِ حديثٍ؟
هل قِصَصُ المحدِّثين مخالِفةٌ للمَنْطِق؟
الجواب التفصيلي
الجوابُ التفصيليّ:
حقيقةُ هذه الشبهةِ مبنيَّةٌ على الطعنِ في السنَّةِ النبويَّةِ بالطعنِ في أهمِّ الكُتُبِ المصنَّفةِ فيها.
وهذه الشبهةُ دالَّةٌ على جهلٍ شديدٍ بأحوالِ أئمَّةِ الحديثِ وتاريخِهم، وهي مبنيَّةٌ على مجرَّدِ الرغبةِ بالتهويلِ والتعجُّب، وهذا يُحسِنُهُ كلُّ أحد.
على أن حالَ الطاعِنين في السنَّةِ مِن الإعراضِ عن طلَبِ العلمِ، والرغبةِ عنه، هو أَوْلى وأَجْدَرُ أن يُتعجَّبَ منه.
والاستشكالُ الذي يُورِدُهُ صاحبُ السؤالِ يتضمَّنُ الحاجةَ إلى إزالةِ اللبسِ عما ذكَرهُ الإمامُ البخاريُّ رحمه اللهُ عن نفسِهِ، حين قال: «صنَّفتُ كتابيَ «الصَّحاحَ» بستَّ عَشْرةَ سنةً، خرَّجتُهُ مِن ستِّ مئةِ ألفِ حديثٍ، وجعَلتُهُ حُجَّةً فيما بيني وبين اللهِ عزَّ وجلَّ»؛ رواه الخطيبُ البغداديُّ في «الجامعْ، لأخلاقِ الراوي وآدابِ السامعْ» (1562).
ويتبيَّنُ ذلك مِن وجوه:
1- أن الإمامَ البخاريَّ كانت معرفتُهُ في السنَّةِ النبويَّةِ معرفةً تراكُميَّةً، لم تحصُلْ في ستَّ عَشْرةَ سنةً فقطْ:
فلا تدُلُّ كلمتُهُ الواردةُ في السؤالِ على أنه كان قبل جمعِهِ للبخاريِّ لاهيًا آكلًا شاربًا نائمًا، ثم جاء فجأةً وجمَعَ تلك الأحاديثَ؛ ففي ذلك إغفالٌ وتجاهُلٌ لمعرفتِهِ التراكُميَّةِ بالحديث.
ولنذكُرْ هذا الحِوارَ بين الإمامِ البخاريِّ وبين ورَّاقِهِ الذي يُخبِرُنا فيه عن مسيرتِهِ في طلبِ العلم:
- قال أبو جعفرٍ محمَّدُ بنُ أبي حاتمٍ الورَّاقُ النَّحْويُّ:
«قلتُ لأبي عبدِ اللهِ محمَّدِ بنِ إسماعيلَ البخاريِّ: كيف كان بَدْءُ أمرِكَ في طلَبِ الحديث؟ قال: أُلْهِمْتُ حفظَ الحديثِ وأنا في الكُتَّابِ، قال: وكم أتى عليك إذْ ذاك؟ فقال: عَشْرُ سنينَ أو أقلُّ، ثم خرَجْتُ مِن الكُتَّابِ بعد العَشْرِ، فجعَلْتُ أختلِفُ إلى الداخليِّ وغيرِه، وقال يومًا فيما كان يَقرَأُ للناسِ: «سفيانُ، عن أبي الزُّبَيرِ، عن إبراهيمَ»، فقلتُ له: يا أبا فلانٍ، إنَّ أبا الزُّبَيرِ لم يَرْوِ عن إبراهيمَ، فانتهَرَني، فقلتُ له: ارْجِعْ إلى الأصلِ إن كان عندَك، فدخَلَ ونظَرَ فيه، ثم خرَجَ، فقال لي: كيف هو يا غُلامُ؟ قلتُ: هو «الزُّبَيرُ بنُ عَدِيٍّ، عن إبراهيمَ»، فأخَذَ القلَمَ مني، وأحكَمَ كتابَهُ، فقال: صدَقْتَ، فقال له بعضُ أصحابِهِ: ابنَ كَمْ كنتَ إذْ رَدَدتَّ عليه؟ فقال: ابنَ إحدى عَشْرةَ، فلمَّا طعَنْتُ في ستَّ عَشْرةَ سنةً، حَفِظتُ كُتُبَ ابنِ المبارَكِ، ووَكِيعٍ، وعرَفْتُ كلامَ هؤلاءِ، ثم خرَجْتُ مع أمي وأخي أحمدَ إلى مكَّةَ، فلما حجَجْتُ، رجَعَ أخي بها، وتخلَّفْتُ بها في طلَبِ الحديثِ، فلما طعَنْتُ في ثمانيَ عَشْرةَ، جعَلْتُ أصنِّفُ قضايا الصحابةِ والتابِعين وأقاويلَهم، وذلك أيَّاَم عُبَيدِ اللهِ بنِ موسى، وصنَّفْتُ كتابَ «التاريخِ» إذْ ذاك عند قبرِ الرسولِ ﷺ في الليالي المُقمِرةِ، وقال: «قَلَّ اسمٌ في «التاريخ» إلا وله عندي قِصَّةٌ، إلا أني كَرِهْتُ تطويلَ الكتاب»؛
رواه الخطيبُ البغداديُّ في «تاريخِه» (2/324- 325)
وهذا كلُّه كان قبل تصنيفِهِ كتابَ «الصحيح»، وكتابُهُ «التاريخُ الكبيرُ» مِن الكتُبِ الجليلةِ في علمِ الرجال.
- وقال أبو بكرٍ الأعيَنُ: «كتَبْنا عن محمَّدِ بنِ إسماعيلَ البخاريِّ، وما في وجهِهِ مِن شَعْرةٍ»؛ ذكَرهُ الأبناسيُّ في «الشذا الفيَّاح» (1/ 392).
وذلك كلُّه كان بتوفيقِ اللهِ تعالى للإمامِ البخاريِّ، وتهيئتِهِ له أسبابَهُ؛ مِن قوَّةِ حفظِ البخاريِّ وذكائِه، وضبطِهِ وقوَّةِ رغبتِهِ في العلم.
2- رَقْمُ (ستِّ مئةِ ألفٍ) ليس عدًّا للمتون:
فعندما يقالُ مثلًا: «إن الإمامَ أحمدَ كان يَحفَظُ ألفَ ألفِ حديثٍ، وإن أبا زُرْعةَ كان يَحفَظُ سبعَ مئةِ ألفِ حديثٍ، وغيرَ ذلك مما رُوِيَ عن الحُفَّاظ» -: فالمقصودُ بذلك: الطُّرُقُ والرواياتُ والأسانيد؛ فالحديثُ الواحدُ معدودٌ بسندِهِ ومتنِه، فإذا تعدَّد السندُ، عُدَّ عندهم أحاديثَ مختلِفةً؛ ولذلك قد يكونُ للحديثِ مئةُ إسنادٍ أو أكثرُ، فيعُدُّونه مئةَ حديثٍ، وأيضًا: يدخُلُ فيه المرفوعُ والموقوفُ والمقطوعُ، والصحيحُ والضعيف.
ولا بأسَ أن نوضِّحَ ذلك بنقلِ كلامٍ لبعضِ علماءِ الحديثِ؛ لنأخُذَ الأمرَ عن أهلِه:
- قال الإمامُ أحمدُ بنُ حَنبَلٍ: «صَحَّ مِن الحديثِ سبعُ مئةِ ألفِ حديثٍ وكسرٌ، وهذا الفتى - يعني أبا زُرْعةَ - قد حَفِظَ سِتَّ مئةِ ألفِ حديثٍ»؛ «تاريخ بغداد» (12/ 33)؛ فعلَّق البَيهَقيُّ بقولِه: «وإنما أراد - واللهُ أعلم - ما صَحَّ مِن أحاديثِ رسولِ اللهِ ﷺ، وأقاويلِ الصحابة، وفتاوى مَن أخَذَ عنهم مِن التابِعين»؛ «تهذيب التهذيب» (7/ 33).
- ويقولُ ابنُ الصلاحِ شارحًا قولَ البخاريِّ: «أَحفَظُ مئةَ ألفِ حديثٍ صحيح، ومِئَتَيْ ألفِ حديثٍ غيرِ صحيح» -: «هذه العبارةُ قد يندرِجُ تحتها عندهم آثارُ الصحابةِ والتابِعين، وربما عُدَّ الحديثُ الواحدُ المرويُّ بإسنادَيْنِ حديثَيْن»؛ «مقدِّمةُ ابنِ الصلاح» (ص 20).
- ويقولُ ابنُ حجَرٍ في الجوابِ على مَن استغرَبَ حفظَ الإمامِ البخاريِّ لمئةِ ألفِ حديثٍ صحيح، ومِئَتَيْ ألفِ حديثٍ غيرِ صحيحٍ - بعد أن ذكَرَ قولَ ابنِ الصلاحِ السابقَ في شرحِ كلامِ البخاريِّ -: «ويزيدُ ذلك وضوحًا: أن الحافظَ أبا بكرٍ محمَّدَ بنَ عبدِ اللهِ الشَّيْبانيَّ المعروفَ بالجَوْزقيِّ، ذكَرَ في كتابِهِ المسمَّى بـ «المتفِقِ»: أنه استخرَجَ على جميعِ ما في «الصحيحَيْنِ» حديثًا حديثًا؛ فكان مجموعُ ذلك خمسةً وعشرينَ ألفَ طريقٍ، وأربعَ مئةٍ وثمانينَ طريقًا؛ فإذا كان الشيخانِ - مع ضِيقِ شرطِهما - بلَغَ جملةُ ما في كتابَيْهما بالمكرَّرِ هذا القدرَ، فما لم يُخرِجاهُ مِن الطرُقِ للمتونِ التي أخرَجاها، لعلَّه يبلُغُ هذا القدرَ أيضًا، أو يزيدُ، وما لم يُخرِجاهُ مِن المتونِ مِن الصحيحِ الذي لم يبلُغْ شرطَهما، لعلَّه يبلُغُ هذا القدرَ أيضًا، أو يقرُبُ منه.
فإذا انضاف إلى ذلك ما جاء مِن الصحابةِ والتابِعين، تمَّت العِدَّةُ التي ذكَرَ البخاريُّ أنه يَحفَظُها»؛ «النُّكَتُ على كتابِ ابنِ الصلاح» لابن حجَر (1/ 297).
فيتبيَّنُ مِن هذا: أن الحسابَ الواردَ في السؤالِ فيه إهمالٌ وإغفالٌ لمرادِ البخاريِّ بالرَّقْمِ الذي ذكَرهُ في كلامِه.
3- الاستدلالُ بكلامِ البخاريِّ يناقِضُ الطعنَ في منهجيَّةِ العلماءِ المدوَّنةِ في كُتُبِ مصطلَحِ الحديث:
فكيف عرَفَ هذا الطاعنُ أن البخاريَّ انتقى «صحيحَهُ» مِن هذا العدد؟ لن يَعرِفَ ذلك إلا بما نقَلهُ العلماءُ عنه في كُتُبِ المصطلَحِ؛ فإذا كان يَطعَنُ في السنَّةِ، فكيف يَقبَلُ ما نقَلهُ علماءُ السنَّةِ في كُتُبِ المصطلَح؟! هذا تناقُضٌ واضحٌ.
مختصر الجواب
مضمونُ السؤال:
جاء أن البخاريَّ جمَعَ «صحيحَهُ» مِن ستِّ مئةِ ألفِ حديثٍ، وهو رَقْمٌ يستلزِمُ مدَّةً طويلةً لا تكفي للبخاريِّ الذي انتقى أحاديثَهُ بدِقَّة؛ مما يدُلُّ على شكٍّ في صحَّةِ أحاديثِه.
مختصَرُ الإجابة:
ليس في كلامِ الإمامِ البخاريِّ: ما يقتضي التعجُّبَ؛ لأن معرفتَهُ بالحديثِ كانت معرفةً تراكُميَّةً منذُ نشأتِه، واستفاد فيها مِن جهودٍ سابقةٍ ومعاصِرة، وليست تلك السنواتُ الستَّ عَشْرةَ التي جمَعَ البخاريُّ فيها «صحيحَهُ» حَلْقةً مقطوعةً في تاريخِ السنَّة، بل هي حَلْقةٌ ضِمنَ سلسلة.
كما أن الرَّقْمَ المذكورَ (ستَّ مئةِ ألفٍ) ليس كبيرًا؛ إذا عرَفْنا أنه عَدٌّ للأسانيدِ والطرُقِ، والمرفوعاتِ والموقوفات، وليس عَدًّا لمتونٍ مختلِفةٍ واردةٍ عن النبيِّ ﷺ؛ فالحديثُ الواحدُ إذا رواه البخاريُّ مِن عشَرةِ طرُقٍ، يُعَدُّ عشَرةَ أحاديثَ؛ وَفْقًا للمصطلَحِ الذي استعمَلهُ البخاريُّ في عبارتِهِ المذكورةِ في السؤال.
خاتمة الجواب
خاتِمةُ الجواب - توصية:
والعاقلُ يُدرِكُ أن مِثلَ هذا الأمرِ ونحوَهُ، لو كان مناقِضًا للعقلِ، لَمَا تداوَلهُ العلماءُ العقلاءُ على مَرِّ العصور، أو لطُعِنَ به في «صحيحِ البخاريِّ» في أوَّلِ أمرِه؛ فتوافُقُ أصحابِ الفنِّ على مسألةٍ واحدةٍ تُوحِي أن لهم دليلًا، أو - على الأقلِّ - تفسيرًا لتوافُقِهم عليه، ولأجلِ ذلك: فعلى العاقلِ أن يراجِعَ الأمرَ قبل أن يستعجِلَ بالطعن.
وراجِعْ: جوابَ السؤال رقم: (128).
مختصر الجواب
مضمونُ السؤال:
جاء أن البخاريَّ جمَعَ «صحيحَهُ» مِن ستِّ مئةِ ألفِ حديثٍ، وهو رَقْمٌ يستلزِمُ مدَّةً طويلةً لا تكفي للبخاريِّ الذي انتقى أحاديثَهُ بدِقَّة؛ مما يدُلُّ على شكٍّ في صحَّةِ أحاديثِه.
مختصَرُ الإجابة:
ليس في كلامِ الإمامِ البخاريِّ: ما يقتضي التعجُّبَ؛ لأن معرفتَهُ بالحديثِ كانت معرفةً تراكُميَّةً منذُ نشأتِه، واستفاد فيها مِن جهودٍ سابقةٍ ومعاصِرة، وليست تلك السنواتُ الستَّ عَشْرةَ التي جمَعَ البخاريُّ فيها «صحيحَهُ» حَلْقةً مقطوعةً في تاريخِ السنَّة، بل هي حَلْقةٌ ضِمنَ سلسلة.
كما أن الرَّقْمَ المذكورَ (ستَّ مئةِ ألفٍ) ليس كبيرًا؛ إذا عرَفْنا أنه عَدٌّ للأسانيدِ والطرُقِ، والمرفوعاتِ والموقوفات، وليس عَدًّا لمتونٍ مختلِفةٍ واردةٍ عن النبيِّ ﷺ؛ فالحديثُ الواحدُ إذا رواه البخاريُّ مِن عشَرةِ طرُقٍ، يُعَدُّ عشَرةَ أحاديثَ؛ وَفْقًا للمصطلَحِ الذي استعمَلهُ البخاريُّ في عبارتِهِ المذكورةِ في السؤال.
الجواب التفصيلي
الجوابُ التفصيليّ:
حقيقةُ هذه الشبهةِ مبنيَّةٌ على الطعنِ في السنَّةِ النبويَّةِ بالطعنِ في أهمِّ الكُتُبِ المصنَّفةِ فيها.
وهذه الشبهةُ دالَّةٌ على جهلٍ شديدٍ بأحوالِ أئمَّةِ الحديثِ وتاريخِهم، وهي مبنيَّةٌ على مجرَّدِ الرغبةِ بالتهويلِ والتعجُّب، وهذا يُحسِنُهُ كلُّ أحد.
على أن حالَ الطاعِنين في السنَّةِ مِن الإعراضِ عن طلَبِ العلمِ، والرغبةِ عنه، هو أَوْلى وأَجْدَرُ أن يُتعجَّبَ منه.
والاستشكالُ الذي يُورِدُهُ صاحبُ السؤالِ يتضمَّنُ الحاجةَ إلى إزالةِ اللبسِ عما ذكَرهُ الإمامُ البخاريُّ رحمه اللهُ عن نفسِهِ، حين قال: «صنَّفتُ كتابيَ «الصَّحاحَ» بستَّ عَشْرةَ سنةً، خرَّجتُهُ مِن ستِّ مئةِ ألفِ حديثٍ، وجعَلتُهُ حُجَّةً فيما بيني وبين اللهِ عزَّ وجلَّ»؛ رواه الخطيبُ البغداديُّ في «الجامعْ، لأخلاقِ الراوي وآدابِ السامعْ» (1562).
ويتبيَّنُ ذلك مِن وجوه:
1- أن الإمامَ البخاريَّ كانت معرفتُهُ في السنَّةِ النبويَّةِ معرفةً تراكُميَّةً، لم تحصُلْ في ستَّ عَشْرةَ سنةً فقطْ:
فلا تدُلُّ كلمتُهُ الواردةُ في السؤالِ على أنه كان قبل جمعِهِ للبخاريِّ لاهيًا آكلًا شاربًا نائمًا، ثم جاء فجأةً وجمَعَ تلك الأحاديثَ؛ ففي ذلك إغفالٌ وتجاهُلٌ لمعرفتِهِ التراكُميَّةِ بالحديث.
ولنذكُرْ هذا الحِوارَ بين الإمامِ البخاريِّ وبين ورَّاقِهِ الذي يُخبِرُنا فيه عن مسيرتِهِ في طلبِ العلم:
- قال أبو جعفرٍ محمَّدُ بنُ أبي حاتمٍ الورَّاقُ النَّحْويُّ:
«قلتُ لأبي عبدِ اللهِ محمَّدِ بنِ إسماعيلَ البخاريِّ: كيف كان بَدْءُ أمرِكَ في طلَبِ الحديث؟ قال: أُلْهِمْتُ حفظَ الحديثِ وأنا في الكُتَّابِ، قال: وكم أتى عليك إذْ ذاك؟ فقال: عَشْرُ سنينَ أو أقلُّ، ثم خرَجْتُ مِن الكُتَّابِ بعد العَشْرِ، فجعَلْتُ أختلِفُ إلى الداخليِّ وغيرِه، وقال يومًا فيما كان يَقرَأُ للناسِ: «سفيانُ، عن أبي الزُّبَيرِ، عن إبراهيمَ»، فقلتُ له: يا أبا فلانٍ، إنَّ أبا الزُّبَيرِ لم يَرْوِ عن إبراهيمَ، فانتهَرَني، فقلتُ له: ارْجِعْ إلى الأصلِ إن كان عندَك، فدخَلَ ونظَرَ فيه، ثم خرَجَ، فقال لي: كيف هو يا غُلامُ؟ قلتُ: هو «الزُّبَيرُ بنُ عَدِيٍّ، عن إبراهيمَ»، فأخَذَ القلَمَ مني، وأحكَمَ كتابَهُ، فقال: صدَقْتَ، فقال له بعضُ أصحابِهِ: ابنَ كَمْ كنتَ إذْ رَدَدتَّ عليه؟ فقال: ابنَ إحدى عَشْرةَ، فلمَّا طعَنْتُ في ستَّ عَشْرةَ سنةً، حَفِظتُ كُتُبَ ابنِ المبارَكِ، ووَكِيعٍ، وعرَفْتُ كلامَ هؤلاءِ، ثم خرَجْتُ مع أمي وأخي أحمدَ إلى مكَّةَ، فلما حجَجْتُ، رجَعَ أخي بها، وتخلَّفْتُ بها في طلَبِ الحديثِ، فلما طعَنْتُ في ثمانيَ عَشْرةَ، جعَلْتُ أصنِّفُ قضايا الصحابةِ والتابِعين وأقاويلَهم، وذلك أيَّاَم عُبَيدِ اللهِ بنِ موسى، وصنَّفْتُ كتابَ «التاريخِ» إذْ ذاك عند قبرِ الرسولِ ﷺ في الليالي المُقمِرةِ، وقال: «قَلَّ اسمٌ في «التاريخ» إلا وله عندي قِصَّةٌ، إلا أني كَرِهْتُ تطويلَ الكتاب»؛
رواه الخطيبُ البغداديُّ في «تاريخِه» (2/324- 325)
وهذا كلُّه كان قبل تصنيفِهِ كتابَ «الصحيح»، وكتابُهُ «التاريخُ الكبيرُ» مِن الكتُبِ الجليلةِ في علمِ الرجال.
- وقال أبو بكرٍ الأعيَنُ: «كتَبْنا عن محمَّدِ بنِ إسماعيلَ البخاريِّ، وما في وجهِهِ مِن شَعْرةٍ»؛ ذكَرهُ الأبناسيُّ في «الشذا الفيَّاح» (1/ 392).
وذلك كلُّه كان بتوفيقِ اللهِ تعالى للإمامِ البخاريِّ، وتهيئتِهِ له أسبابَهُ؛ مِن قوَّةِ حفظِ البخاريِّ وذكائِه، وضبطِهِ وقوَّةِ رغبتِهِ في العلم.
2- رَقْمُ (ستِّ مئةِ ألفٍ) ليس عدًّا للمتون:
فعندما يقالُ مثلًا: «إن الإمامَ أحمدَ كان يَحفَظُ ألفَ ألفِ حديثٍ، وإن أبا زُرْعةَ كان يَحفَظُ سبعَ مئةِ ألفِ حديثٍ، وغيرَ ذلك مما رُوِيَ عن الحُفَّاظ» -: فالمقصودُ بذلك: الطُّرُقُ والرواياتُ والأسانيد؛ فالحديثُ الواحدُ معدودٌ بسندِهِ ومتنِه، فإذا تعدَّد السندُ، عُدَّ عندهم أحاديثَ مختلِفةً؛ ولذلك قد يكونُ للحديثِ مئةُ إسنادٍ أو أكثرُ، فيعُدُّونه مئةَ حديثٍ، وأيضًا: يدخُلُ فيه المرفوعُ والموقوفُ والمقطوعُ، والصحيحُ والضعيف.
ولا بأسَ أن نوضِّحَ ذلك بنقلِ كلامٍ لبعضِ علماءِ الحديثِ؛ لنأخُذَ الأمرَ عن أهلِه:
- قال الإمامُ أحمدُ بنُ حَنبَلٍ: «صَحَّ مِن الحديثِ سبعُ مئةِ ألفِ حديثٍ وكسرٌ، وهذا الفتى - يعني أبا زُرْعةَ - قد حَفِظَ سِتَّ مئةِ ألفِ حديثٍ»؛ «تاريخ بغداد» (12/ 33)؛ فعلَّق البَيهَقيُّ بقولِه: «وإنما أراد - واللهُ أعلم - ما صَحَّ مِن أحاديثِ رسولِ اللهِ ﷺ، وأقاويلِ الصحابة، وفتاوى مَن أخَذَ عنهم مِن التابِعين»؛ «تهذيب التهذيب» (7/ 33).
- ويقولُ ابنُ الصلاحِ شارحًا قولَ البخاريِّ: «أَحفَظُ مئةَ ألفِ حديثٍ صحيح، ومِئَتَيْ ألفِ حديثٍ غيرِ صحيح» -: «هذه العبارةُ قد يندرِجُ تحتها عندهم آثارُ الصحابةِ والتابِعين، وربما عُدَّ الحديثُ الواحدُ المرويُّ بإسنادَيْنِ حديثَيْن»؛ «مقدِّمةُ ابنِ الصلاح» (ص 20).
- ويقولُ ابنُ حجَرٍ في الجوابِ على مَن استغرَبَ حفظَ الإمامِ البخاريِّ لمئةِ ألفِ حديثٍ صحيح، ومِئَتَيْ ألفِ حديثٍ غيرِ صحيحٍ - بعد أن ذكَرَ قولَ ابنِ الصلاحِ السابقَ في شرحِ كلامِ البخاريِّ -: «ويزيدُ ذلك وضوحًا: أن الحافظَ أبا بكرٍ محمَّدَ بنَ عبدِ اللهِ الشَّيْبانيَّ المعروفَ بالجَوْزقيِّ، ذكَرَ في كتابِهِ المسمَّى بـ «المتفِقِ»: أنه استخرَجَ على جميعِ ما في «الصحيحَيْنِ» حديثًا حديثًا؛ فكان مجموعُ ذلك خمسةً وعشرينَ ألفَ طريقٍ، وأربعَ مئةٍ وثمانينَ طريقًا؛ فإذا كان الشيخانِ - مع ضِيقِ شرطِهما - بلَغَ جملةُ ما في كتابَيْهما بالمكرَّرِ هذا القدرَ، فما لم يُخرِجاهُ مِن الطرُقِ للمتونِ التي أخرَجاها، لعلَّه يبلُغُ هذا القدرَ أيضًا، أو يزيدُ، وما لم يُخرِجاهُ مِن المتونِ مِن الصحيحِ الذي لم يبلُغْ شرطَهما، لعلَّه يبلُغُ هذا القدرَ أيضًا، أو يقرُبُ منه.
فإذا انضاف إلى ذلك ما جاء مِن الصحابةِ والتابِعين، تمَّت العِدَّةُ التي ذكَرَ البخاريُّ أنه يَحفَظُها»؛ «النُّكَتُ على كتابِ ابنِ الصلاح» لابن حجَر (1/ 297).
فيتبيَّنُ مِن هذا: أن الحسابَ الواردَ في السؤالِ فيه إهمالٌ وإغفالٌ لمرادِ البخاريِّ بالرَّقْمِ الذي ذكَرهُ في كلامِه.
3- الاستدلالُ بكلامِ البخاريِّ يناقِضُ الطعنَ في منهجيَّةِ العلماءِ المدوَّنةِ في كُتُبِ مصطلَحِ الحديث:
فكيف عرَفَ هذا الطاعنُ أن البخاريَّ انتقى «صحيحَهُ» مِن هذا العدد؟ لن يَعرِفَ ذلك إلا بما نقَلهُ العلماءُ عنه في كُتُبِ المصطلَحِ؛ فإذا كان يَطعَنُ في السنَّةِ، فكيف يَقبَلُ ما نقَلهُ علماءُ السنَّةِ في كُتُبِ المصطلَح؟! هذا تناقُضٌ واضحٌ.
خاتمة الجواب
خاتِمةُ الجواب - توصية:
والعاقلُ يُدرِكُ أن مِثلَ هذا الأمرِ ونحوَهُ، لو كان مناقِضًا للعقلِ، لَمَا تداوَلهُ العلماءُ العقلاءُ على مَرِّ العصور، أو لطُعِنَ به في «صحيحِ البخاريِّ» في أوَّلِ أمرِه؛ فتوافُقُ أصحابِ الفنِّ على مسألةٍ واحدةٍ تُوحِي أن لهم دليلًا، أو - على الأقلِّ - تفسيرًا لتوافُقِهم عليه، ولأجلِ ذلك: فعلى العاقلِ أن يراجِعَ الأمرَ قبل أن يستعجِلَ بالطعن.
وراجِعْ: جوابَ السؤال رقم: (128).