نص السؤال

أخبَرَ اللهُ تعالى عن قولِ المشرِكين في وصفِ محمَّدٍ ﷺ:

{إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا}

[الإسراء: 47، والفرقان: 8]

وليس المسحورُ عندهم إلا مَن خُولِطَ في عقلِه، وخُيِّلَ له أن شيئًا يقَعُ وهو لا يقَعُ؛ فيُخيَّلُ إليه أنه يُوحَى إليه، ولا يُوحَى إليه؛ فكيف نَقبَلُ حديثًا جاء في السنَّةِ يؤيِّدُ فِرْيةَ المشرِكين، ويَقدَحُ في نبوَّةِ محمَّدٍ ﷺ، وهو الحديثُ الذي ينُصُّ على أن النبيَّ ﷺ سحَرهُ لَبِيدُ بنُ الأَعصَم؟ 

المؤلف: باحثو مركز أصول

المصدر: مركز أصول

عبارات مشابهة للسؤال

قصَّةُ سِحرِ النبيِّ ﷺ ليست صحيحةً. «صحيحُ البخاريِّ» يؤيِّدُ المشرِكين في قصَّةِ سِحرِ النبيِّ ﷺ




الجواب التفصيلي

الجوابُ التفصيليّ:
هذه الشبهةُ مبنيَّةٌ على فهمٍ خاطئٍ لقولِهِ تعالى حكايةً عن المشرِكين:

{إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا}

[الإسراء: 47، والفرقان: 8]

نتَجَ عنه معارَضةُ الحديثِ به، وما يُورِدُهُ صاحبُ هذا السؤالِ يتضمَّنُ الحاجةَ إلى معرفةِ المدلولِ الصحيحِ للحديثِ الثابتِ في الصحيحِ عن عائشةَ رضيَ اللهُ عنها، قالت:

«سَحَرَ رَسُولَ اللهِ ﷺ رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ، يُقَالُ لَهُ: لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ، حَتَّى كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُ ...»، الحديثَ؛

رواه البخاري (5763)، ومسلم (2189)


ويتبيَّنُ ذلك مِن وجوه:
1- الأمراضُ جائزةٌ على الأنبياءِ صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهم، ولا تُنافي حمايةَ الله وصيانتَهُ لهم:
فقد مَرِضَ النبيُّ ﷺ حتى أُغْمِيَ عليه، ووقَعَ حتى انفَكَّتْ قدَمُه، وجُحِشَ شِقُّه.
وقد ثبَتَ في «الصحيحِ»، عن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ:

«أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ اشْتَكَيْتَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، قَالَ: بِاسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ، مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ، مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ اللهُ يَشْفِيكَ، بِاسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ»؛

رواه مسلم (2186)

 فعوَّذه جبريلُ مِن شرِّ كلِّ نفسٍ وعينِ حاسدٍ لمَّا اشتكى؛ فدَلَّ على أن هذا التعويذَ مُزِيلٌ لشِكايتِهِ ﷺ، وإلا فلا يعوِّذُهُ مِن شيءٍ وشِكايَتُهُ مِن غيرِه.
وهذا مِن البلاءِ الذي يَزيدُهُ اللهُ به رِفعةً في درَجاتِه، ونيلِ كرامتِه، وأشدُّ الناسِ بلاءً الأنبياءُ؛ فابتُلُوا مِن أُمَمِهم بما ابْتُلوا به مِن القتلِ والضربِ، والشتمِ والحبسِ، حتى إن زكريَّا عليه السلامُ قتَلهُ اليهودُ، وقطَّعوهُ قِطَعًا بالمناشير.
فليس ببِدْعٍ أن يُبتلَى النبيُّ ﷺ مِن بعضِ أعدائِهِ اليهودِ بنوعٍ مِن السِّحر، كما ابتُلِيَ بالذي رماهُ فشَجَّه، وابتُلِيَ بالذي ألقَى على ظهرِهِ السَّلَى - أمعاءَ الحيوان - وهو ساجدٌ، وكان يقولُ لمَّا رأى أذَى قومِهِ:

«رَحِمَ اللهُ أَخِي مُوسَى؛ لَقَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا، فَصَبَرَ»

رواه البخاري (3150)، ومسلم (1062)

 وغيرِ ذلك.
فلا نقصَ على الأنبياءِ في نزولِ الابتلاءاتِ بساحتِهم، ولا عارَ عليهم في ذلك، بل هذا مِن كمالِهم وعُلُوِّ درَجاتِهم عند اللهِ تعالى. 
كما أن صَوْنَ النبيِّ ﷺ مِن الشياطينِ لا يَمنَعُ إرادتَهم كَيْدَه، غيرَ أن اللهَ يُبطِلُ كَيدَهم؛ ففي الصحيحِ: عن النبيِّ ﷺ أنَّه صلَّى صلاةً، قال:

«إِنَّ الشَّيْطَانَ عَرَضَ لِي، فَشَدَّ عَلَيَّ؛ لِيَقْطَعَ الصَّلَاةَ عَلَيَّ، فَأَمْكَنَنِي اللهُ مِنْهُ، فَذَعَتُّهُ، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أُوثِقَهُ إِلَى سَارِيَةٍ حَتَّى تُصْبِحُوا، فَتَنْظُرُوا إِلَيْهِ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:

{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي}

[ص: 35]

فَرَدَّهُ اللهُ خَاسِئًا»؛

رواه البخاري (1210)، ومسلم (541)

فهذا الشيطانُ أراد أن يُفسِدَ عليه صَلاتَه، فأمكَنَهُ اللهُ منه.
2- لم يكن ما أصاب النبيَّ ﷺ مؤثِّرًا على تبليغِ الرِّسالة:
فقد كان ذلك في أمرٍ خاصٍّ مِن أمورِ الدنيا، لم يتعدَّهُ إلى سائرِ أمورِ الدنيا، فضلًا عن أمورِ الدِّينِ، ولا يَلزَمُ مِن حدوثِهِ في ذاك الأمرِ جوازُهُ فيما يتعلَّقُ بالرسالةِ والتبليغ، بل سبيلُهُ سبيلُ ظنِّه ﷺ أن النخلَ لا يحتاجُ إلى التأبيرِ، وظنِّه بعد أن صلَّى ركعتَيْنِ أنه صلَّى أربعًا، وغيرِ ذلك مِن قضايا السهوِ في الصلاة.
وفي القرآنِ نظائرُ لهذا:
منها: ذِكرُ غَضَبِ موسى على أخيهِ هارونَ، وأخذِهِ برأسِهِ؛ لظنِّه أنه قصَّر، مع أنه لم يقصِّرْ.
ومنها: قولُ يعقوبَ لبنيهِ لمَّا ذكَروا له ما جَرَى لابنِهِ الثاني:

{بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا}

[يوسف: 18]

يتَّهِمُهم بتدبيرِ مَكِيدةٍ، مع أنهم كانوا حينئذٍ أبرياءَ صادقين. 
وقد يكونُ مِن هذا بعضُ كلماتِ موسى للخَضِر. 
3- السِّحْرُ الذي وصَفَ به المشرِكون النبيَّ ﷺ، هو المؤدِّي إلى زوالِ العقلِ والجنون، وليس هو ما أصاب النبيَّ ﷺ في هذه الواقعة:
فللحديثِ رواياتٌ فيها:

«أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ سُحِرَ حَتَّى كَادَ يُنْكِرُ بَصَرَهُ»؛

رواه عبدُ الرزَّاق (19764)


وقد استفاد منها بعضُ أهلِ العلمِ - كالقاضي عياضٍ - أن حالَ النبيِّ ﷺ لمَّا سُحِرَ، صار كالذي أنكَرَ بصَرَه، بحيثُ إذا رأى الشيءَ، يراهُ على غيرِ صفتِه، فإذا تأمَّله، عرَفَ حقيقتَه؛ وعلى هذا فسَّروا قولَهُ:

«يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَأْتِي أَهْلَهُ، وَلَا يَأْتِي»؛

رواه البخاري (6063)

 بأن المقصودَ: أن النبيَّ ﷺ كان يَظهَرُ له مِن نشاطِهِ، ومتقدِّمِ عادتِهِ: القدرةُ على مجامَعةِ نسائِه، فإذا دنا مِن الزوجةِ، أصابَتْهُ أُخْذةُ السِّحْرِ تلك، فلم يَقدِرْ على إتيانِها؛ كما يعتري مَن أُخِذَ واعتُرِضَ؛ وهذا ضعفٌ يُصيبُ المريضَ في صحَّتِه وبدَنِه.
وهذا لا عَلاقةَ له بالجنونِ الذي وصَفَ به المشرِكون النبيَّ ﷺ؛ فإن المسحورَ الذي لا يُتَّبَعُ هو الذي فسَدَ عقلُهُ، بحيثُ لا يَدْري ما يقولُ؛ فهو كالمجنونِ؛ ولهذا قالوا فيه ﷺ:

{مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ}

[الدخان: 14]


فأما مَن أُصيبَ في بدَنِهِ بمرضٍ مِن الأمراضِ يُصابُ به الناسُ، فإنه لا يَمنَعُ ذلك مِن اتِّباعِه، وأعداءُ الرسُلِ لم يَقذِفوهم بأمراضِ الأبدان، وإنما قذَفُوهم بما يحذِّرون به سفهاءَهم مِن اتِّباعِهم؛ وهو أنهم قد سُحِروا حتى صاروا لا يَعْلَمون ما يقولون بمنزلةِ المجانينِ، وأرادوا بقولِهم في النبيِّ ﷺ:

{إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا}

[الإسراء: 47، والفرقان: 8]

أن أمرَ النبوَّةِ كلَّه سِحرٌ، وأن ذلك ناشئٌ عن أن الشياطينَ قد استولَوْا عليه - بزعمِهم - يُلْقُون إليه القرآنَ، ويأمُرونه ويَنهَوْنه، فيصدِّقُهم في ذلك كلِّه، ظانًّا أنه إنما يتلقَّى مِن اللهِ وملائكتِه.
أما ما جاء مِن أنه ﷺ كان يُخيَّلُ له وقوعُ الشيءِ وهو لم يقَعْ، فلا يَلزَمُ مِن ذلك أن النبيَّ ﷺ كان يَجزِمُ بوقوعِه، وإنما يكونُ ذلك مِن الخواطرِ العارِضةِ التي تخطُرُ في الذهنِ ولا تثبُتُ.
ويدُلُّ على ذلك: أنه لم يُنقَلْ عنه ﷺ أنه قال إذْ ذاك قولًا، فكان على خلافِ ما أخبَرَ به.
وفي روايةٍ عند ابنِ سعدٍ في «الطبقات» (2/197- 198): «أَنَّ أُخْتَ لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ قَالَتْ: إِنْ يَكُنْ نَبِيًّا، فَسَيُخْبَرُ، وَإِلَّا فَسَيُذْهِلُهُ هَذَا السِّحْرُ حَتَّى يَذْهَبَ عَقْلُهُ».
فلو كانت واقعةُ سِحرِ النبيِّ ﷺ معارِضةً لنبوَّتِهِ، لكان الذي وقَعَ هو الاحتمالَ الثانيَ - وهو ذَهابُ العقلِ - لا الاحتمالَ الأوَّلَ، ولمَّا كان الذي وقَعَ هو الاحتمالَ الأوَّلَ، تبيَّن لنا أن الواقعةَ غيرُ معارِضةٍ لنبوَّةِ محمَّدٍ ﷺ. 
ولا ريبَ أن الحالَ التي ذُكِرَتْ في الحديثِ، عروضُها له ﷺ لفترةٍ خاصَّةٍ، ليست هي هذه التي زعَمَها المشرِكون، ولا هي مِن قَبيلِها في شيءٍ مِن الأوصافِ المذكورة.
وقد قال اللهُ تعالى في وصفِ موسى عليه السلامُ:

{فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى}

[طه: 66]

ولم يكن ذلك التخييلُ مصدِّقًا لقولِ فِرْعَوْنَ فيه:

{إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا}

[الإسراء: 101]

مختصر الجواب

مضمونُ السؤال:
أخبَرَ اللهُ تعالى عن قولِ المشرِكين في وصفِ محمَّدٍ ﷺ:

{إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا}

[الإسراء: 47، والفرقان: 8]

وليس المسحورُ عندهم إلا مَن خُولِطَ في عقلِه، وخُيِّلَ له أن شيئًا يقَعُ وهو لا يقَعُ؛ فيُخيَّلُ إليه أنه يُوحَى إليه، ولا يُوحَى إليه؛ فالحديثُ الذي ينُصُّ على أن النبيَّ ﷺ سحَرهُ لَبِيدُ بنُ الأَعصَمِ، جاء يؤيِّدُ فِرْيةَ المشرِكين، ويَقدَحُ في نبوَّةِ محمَّدٍ ﷺ - مِن وجهةِ نظرِ السائلِ - ولذلك فهو مردودٌ.
مختصَرُ الإجابة:
ما أصاب النبيَّ ﷺ في تلك الفترةِ المذكورةِ في الحديثِ، كان مرَضًا جِسميًّا لم يُصِبْ عقلَهُ ﷺ، وإن كانت قد تَعرِضُ له خواطِرُ غيرُ صحيحةٍ، ثم لا تدُومُ، إلا أنها كانت في أمرٍ خاصٍّ دنيويٍّ، ولم تكن في أمرِ الرسالةِ والتبليغ؛ وهذا لا يُنافي النبوَّةَ؛ فإن الأمراضَ جائزةٌ على الأنبياءِ صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهم، كما أنه لا يؤيِّدُ قولَ المشرِكين:

{إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا}

[الإسراء: 47، والفرقان: 8]

لأن المسحورَ المقصودَ في الآيةِ: هو المجنونُ الذي يُحذَّرُ مِن اتِّباعِه، وليس المريضَ بمرضٍ جِسمانيٍّ عارضٍ، وهو ما أصاب النبيَّ ﷺ في هذه الواقعة. 

خاتمة الجواب

خاتِمةُ الجواب - توصية:
أنكَرَ هذا الحديثَ كثيرٌ مِن أهلِ الكلامِ، وغيرُهم مِن المُلحِدة، وقابَلوهُ بالتكذيبِ - كما يشيرُ ابنُ القيِّم - وقد أجاب عن إشكالاتِهمُ العلماءُ، وقد يستشكِلُ بعضُ الناسِ ما جاء فيه، غيرَ أنك إذا تأمَّلْتَ تلك الواقعةَ، وجَدتَّها لا تعارِضُ عصمةَ اللهِ تعالى لأنبيائِه، وحمايتَهُ لهم، بل فيها عِبْرةٌ وعِظةٌ لمَن تأمَّلها؛ فاللهُ سبحانه كما يَحْمي الأنبياءَ ويصُونُهم ويَحفَظُهم ويتولَّاهم؛ فإنه يَبْتليهم بما شاء مِن أذى الكفَّارِ لهم؛ ليستوجِبوا كمالَ كرامتِه، وفي ذلك تسليةٌ لنا - معاشِرَ أتباعِ الأنبياءِ - إذا أُوذِينا في سبيلِ الله تعالى؛ فإننا نرى ما جرى على رُسُلِنا وأنبيائِنا صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهم، فصبَروا ورَضُوا، فنتأسَّى بهم، ونهتدي بهَدْيِهم.
وراجِعْ: جوابَ السؤال رقم: (134).

مختصر الجواب

مضمونُ السؤال:
أخبَرَ اللهُ تعالى عن قولِ المشرِكين في وصفِ محمَّدٍ ﷺ:

{إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا}

[الإسراء: 47، والفرقان: 8]

وليس المسحورُ عندهم إلا مَن خُولِطَ في عقلِه، وخُيِّلَ له أن شيئًا يقَعُ وهو لا يقَعُ؛ فيُخيَّلُ إليه أنه يُوحَى إليه، ولا يُوحَى إليه؛ فالحديثُ الذي ينُصُّ على أن النبيَّ ﷺ سحَرهُ لَبِيدُ بنُ الأَعصَمِ، جاء يؤيِّدُ فِرْيةَ المشرِكين، ويَقدَحُ في نبوَّةِ محمَّدٍ ﷺ - مِن وجهةِ نظرِ السائلِ - ولذلك فهو مردودٌ.
مختصَرُ الإجابة:
ما أصاب النبيَّ ﷺ في تلك الفترةِ المذكورةِ في الحديثِ، كان مرَضًا جِسميًّا لم يُصِبْ عقلَهُ ﷺ، وإن كانت قد تَعرِضُ له خواطِرُ غيرُ صحيحةٍ، ثم لا تدُومُ، إلا أنها كانت في أمرٍ خاصٍّ دنيويٍّ، ولم تكن في أمرِ الرسالةِ والتبليغ؛ وهذا لا يُنافي النبوَّةَ؛ فإن الأمراضَ جائزةٌ على الأنبياءِ صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهم، كما أنه لا يؤيِّدُ قولَ المشرِكين:

{إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا}

[الإسراء: 47، والفرقان: 8]

لأن المسحورَ المقصودَ في الآيةِ: هو المجنونُ الذي يُحذَّرُ مِن اتِّباعِه، وليس المريضَ بمرضٍ جِسمانيٍّ عارضٍ، وهو ما أصاب النبيَّ ﷺ في هذه الواقعة. 

الجواب التفصيلي

الجوابُ التفصيليّ:
هذه الشبهةُ مبنيَّةٌ على فهمٍ خاطئٍ لقولِهِ تعالى حكايةً عن المشرِكين:

{إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا}

[الإسراء: 47، والفرقان: 8]

نتَجَ عنه معارَضةُ الحديثِ به، وما يُورِدُهُ صاحبُ هذا السؤالِ يتضمَّنُ الحاجةَ إلى معرفةِ المدلولِ الصحيحِ للحديثِ الثابتِ في الصحيحِ عن عائشةَ رضيَ اللهُ عنها، قالت:

«سَحَرَ رَسُولَ اللهِ ﷺ رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ، يُقَالُ لَهُ: لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ، حَتَّى كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُ ...»، الحديثَ؛

رواه البخاري (5763)، ومسلم (2189)


ويتبيَّنُ ذلك مِن وجوه:
1- الأمراضُ جائزةٌ على الأنبياءِ صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهم، ولا تُنافي حمايةَ الله وصيانتَهُ لهم:
فقد مَرِضَ النبيُّ ﷺ حتى أُغْمِيَ عليه، ووقَعَ حتى انفَكَّتْ قدَمُه، وجُحِشَ شِقُّه.
وقد ثبَتَ في «الصحيحِ»، عن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ:

«أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ اشْتَكَيْتَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، قَالَ: بِاسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ، مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ، مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ اللهُ يَشْفِيكَ، بِاسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ»؛

رواه مسلم (2186)

 فعوَّذه جبريلُ مِن شرِّ كلِّ نفسٍ وعينِ حاسدٍ لمَّا اشتكى؛ فدَلَّ على أن هذا التعويذَ مُزِيلٌ لشِكايتِهِ ﷺ، وإلا فلا يعوِّذُهُ مِن شيءٍ وشِكايَتُهُ مِن غيرِه.
وهذا مِن البلاءِ الذي يَزيدُهُ اللهُ به رِفعةً في درَجاتِه، ونيلِ كرامتِه، وأشدُّ الناسِ بلاءً الأنبياءُ؛ فابتُلُوا مِن أُمَمِهم بما ابْتُلوا به مِن القتلِ والضربِ، والشتمِ والحبسِ، حتى إن زكريَّا عليه السلامُ قتَلهُ اليهودُ، وقطَّعوهُ قِطَعًا بالمناشير.
فليس ببِدْعٍ أن يُبتلَى النبيُّ ﷺ مِن بعضِ أعدائِهِ اليهودِ بنوعٍ مِن السِّحر، كما ابتُلِيَ بالذي رماهُ فشَجَّه، وابتُلِيَ بالذي ألقَى على ظهرِهِ السَّلَى - أمعاءَ الحيوان - وهو ساجدٌ، وكان يقولُ لمَّا رأى أذَى قومِهِ:

«رَحِمَ اللهُ أَخِي مُوسَى؛ لَقَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا، فَصَبَرَ»

رواه البخاري (3150)، ومسلم (1062)

 وغيرِ ذلك.
فلا نقصَ على الأنبياءِ في نزولِ الابتلاءاتِ بساحتِهم، ولا عارَ عليهم في ذلك، بل هذا مِن كمالِهم وعُلُوِّ درَجاتِهم عند اللهِ تعالى. 
كما أن صَوْنَ النبيِّ ﷺ مِن الشياطينِ لا يَمنَعُ إرادتَهم كَيْدَه، غيرَ أن اللهَ يُبطِلُ كَيدَهم؛ ففي الصحيحِ: عن النبيِّ ﷺ أنَّه صلَّى صلاةً، قال:

«إِنَّ الشَّيْطَانَ عَرَضَ لِي، فَشَدَّ عَلَيَّ؛ لِيَقْطَعَ الصَّلَاةَ عَلَيَّ، فَأَمْكَنَنِي اللهُ مِنْهُ، فَذَعَتُّهُ، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أُوثِقَهُ إِلَى سَارِيَةٍ حَتَّى تُصْبِحُوا، فَتَنْظُرُوا إِلَيْهِ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:

{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي}

[ص: 35]

فَرَدَّهُ اللهُ خَاسِئًا»؛

رواه البخاري (1210)، ومسلم (541)

فهذا الشيطانُ أراد أن يُفسِدَ عليه صَلاتَه، فأمكَنَهُ اللهُ منه.
2- لم يكن ما أصاب النبيَّ ﷺ مؤثِّرًا على تبليغِ الرِّسالة:
فقد كان ذلك في أمرٍ خاصٍّ مِن أمورِ الدنيا، لم يتعدَّهُ إلى سائرِ أمورِ الدنيا، فضلًا عن أمورِ الدِّينِ، ولا يَلزَمُ مِن حدوثِهِ في ذاك الأمرِ جوازُهُ فيما يتعلَّقُ بالرسالةِ والتبليغ، بل سبيلُهُ سبيلُ ظنِّه ﷺ أن النخلَ لا يحتاجُ إلى التأبيرِ، وظنِّه بعد أن صلَّى ركعتَيْنِ أنه صلَّى أربعًا، وغيرِ ذلك مِن قضايا السهوِ في الصلاة.
وفي القرآنِ نظائرُ لهذا:
منها: ذِكرُ غَضَبِ موسى على أخيهِ هارونَ، وأخذِهِ برأسِهِ؛ لظنِّه أنه قصَّر، مع أنه لم يقصِّرْ.
ومنها: قولُ يعقوبَ لبنيهِ لمَّا ذكَروا له ما جَرَى لابنِهِ الثاني:

{بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا}

[يوسف: 18]

يتَّهِمُهم بتدبيرِ مَكِيدةٍ، مع أنهم كانوا حينئذٍ أبرياءَ صادقين. 
وقد يكونُ مِن هذا بعضُ كلماتِ موسى للخَضِر. 
3- السِّحْرُ الذي وصَفَ به المشرِكون النبيَّ ﷺ، هو المؤدِّي إلى زوالِ العقلِ والجنون، وليس هو ما أصاب النبيَّ ﷺ في هذه الواقعة:
فللحديثِ رواياتٌ فيها:

«أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ سُحِرَ حَتَّى كَادَ يُنْكِرُ بَصَرَهُ»؛

رواه عبدُ الرزَّاق (19764)


وقد استفاد منها بعضُ أهلِ العلمِ - كالقاضي عياضٍ - أن حالَ النبيِّ ﷺ لمَّا سُحِرَ، صار كالذي أنكَرَ بصَرَه، بحيثُ إذا رأى الشيءَ، يراهُ على غيرِ صفتِه، فإذا تأمَّله، عرَفَ حقيقتَه؛ وعلى هذا فسَّروا قولَهُ:

«يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَأْتِي أَهْلَهُ، وَلَا يَأْتِي»؛

رواه البخاري (6063)

 بأن المقصودَ: أن النبيَّ ﷺ كان يَظهَرُ له مِن نشاطِهِ، ومتقدِّمِ عادتِهِ: القدرةُ على مجامَعةِ نسائِه، فإذا دنا مِن الزوجةِ، أصابَتْهُ أُخْذةُ السِّحْرِ تلك، فلم يَقدِرْ على إتيانِها؛ كما يعتري مَن أُخِذَ واعتُرِضَ؛ وهذا ضعفٌ يُصيبُ المريضَ في صحَّتِه وبدَنِه.
وهذا لا عَلاقةَ له بالجنونِ الذي وصَفَ به المشرِكون النبيَّ ﷺ؛ فإن المسحورَ الذي لا يُتَّبَعُ هو الذي فسَدَ عقلُهُ، بحيثُ لا يَدْري ما يقولُ؛ فهو كالمجنونِ؛ ولهذا قالوا فيه ﷺ:

{مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ}

[الدخان: 14]


فأما مَن أُصيبَ في بدَنِهِ بمرضٍ مِن الأمراضِ يُصابُ به الناسُ، فإنه لا يَمنَعُ ذلك مِن اتِّباعِه، وأعداءُ الرسُلِ لم يَقذِفوهم بأمراضِ الأبدان، وإنما قذَفُوهم بما يحذِّرون به سفهاءَهم مِن اتِّباعِهم؛ وهو أنهم قد سُحِروا حتى صاروا لا يَعْلَمون ما يقولون بمنزلةِ المجانينِ، وأرادوا بقولِهم في النبيِّ ﷺ:

{إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا}

[الإسراء: 47، والفرقان: 8]

أن أمرَ النبوَّةِ كلَّه سِحرٌ، وأن ذلك ناشئٌ عن أن الشياطينَ قد استولَوْا عليه - بزعمِهم - يُلْقُون إليه القرآنَ، ويأمُرونه ويَنهَوْنه، فيصدِّقُهم في ذلك كلِّه، ظانًّا أنه إنما يتلقَّى مِن اللهِ وملائكتِه.
أما ما جاء مِن أنه ﷺ كان يُخيَّلُ له وقوعُ الشيءِ وهو لم يقَعْ، فلا يَلزَمُ مِن ذلك أن النبيَّ ﷺ كان يَجزِمُ بوقوعِه، وإنما يكونُ ذلك مِن الخواطرِ العارِضةِ التي تخطُرُ في الذهنِ ولا تثبُتُ.
ويدُلُّ على ذلك: أنه لم يُنقَلْ عنه ﷺ أنه قال إذْ ذاك قولًا، فكان على خلافِ ما أخبَرَ به.
وفي روايةٍ عند ابنِ سعدٍ في «الطبقات» (2/197- 198): «أَنَّ أُخْتَ لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ قَالَتْ: إِنْ يَكُنْ نَبِيًّا، فَسَيُخْبَرُ، وَإِلَّا فَسَيُذْهِلُهُ هَذَا السِّحْرُ حَتَّى يَذْهَبَ عَقْلُهُ».
فلو كانت واقعةُ سِحرِ النبيِّ ﷺ معارِضةً لنبوَّتِهِ، لكان الذي وقَعَ هو الاحتمالَ الثانيَ - وهو ذَهابُ العقلِ - لا الاحتمالَ الأوَّلَ، ولمَّا كان الذي وقَعَ هو الاحتمالَ الأوَّلَ، تبيَّن لنا أن الواقعةَ غيرُ معارِضةٍ لنبوَّةِ محمَّدٍ ﷺ. 
ولا ريبَ أن الحالَ التي ذُكِرَتْ في الحديثِ، عروضُها له ﷺ لفترةٍ خاصَّةٍ، ليست هي هذه التي زعَمَها المشرِكون، ولا هي مِن قَبيلِها في شيءٍ مِن الأوصافِ المذكورة.
وقد قال اللهُ تعالى في وصفِ موسى عليه السلامُ:

{فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى}

[طه: 66]

ولم يكن ذلك التخييلُ مصدِّقًا لقولِ فِرْعَوْنَ فيه:

{إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا}

[الإسراء: 101]

خاتمة الجواب

خاتِمةُ الجواب - توصية:
أنكَرَ هذا الحديثَ كثيرٌ مِن أهلِ الكلامِ، وغيرُهم مِن المُلحِدة، وقابَلوهُ بالتكذيبِ - كما يشيرُ ابنُ القيِّم - وقد أجاب عن إشكالاتِهمُ العلماءُ، وقد يستشكِلُ بعضُ الناسِ ما جاء فيه، غيرَ أنك إذا تأمَّلْتَ تلك الواقعةَ، وجَدتَّها لا تعارِضُ عصمةَ اللهِ تعالى لأنبيائِه، وحمايتَهُ لهم، بل فيها عِبْرةٌ وعِظةٌ لمَن تأمَّلها؛ فاللهُ سبحانه كما يَحْمي الأنبياءَ ويصُونُهم ويَحفَظُهم ويتولَّاهم؛ فإنه يَبْتليهم بما شاء مِن أذى الكفَّارِ لهم؛ ليستوجِبوا كمالَ كرامتِه، وفي ذلك تسليةٌ لنا - معاشِرَ أتباعِ الأنبياءِ - إذا أُوذِينا في سبيلِ الله تعالى؛ فإننا نرى ما جرى على رُسُلِنا وأنبيائِنا صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهم، فصبَروا ورَضُوا، فنتأسَّى بهم، ونهتدي بهَدْيِهم.
وراجِعْ: جوابَ السؤال رقم: (134).