نص السؤال
قد دَلَّ العِلمُ الحديثُ دَلالةً قطعيَّةً: أن الأرضَ تدورُ حول نفسِها، فلا تَغِيبُ الشمسُ عن بُقْعةٍ مِن الكُرَةِ الأرضيَّةِ إلا وتُشرِقُ في بُقْعةٍ أخرى، ولا تَغيبُ الشمسُ عن الأرضِ بالكُلِّيَّة؛ فكيف نَقبَلُ هذا الحديثَ الذي فيه أن الشمسَ تَذهَبُ وتسجُدُ تحت العرش، وهو ما يعارِضُ تلك الحقيقةَ العِلميَّةَ القطعيَّةَ؟
المؤلف: باحثو مركز أصول
المصدر: مركز أصول
عبارات مشابهة للسؤال
هل حديثُ سجودِ الشمسِ تحت العرشِ صحيحٌ؟
هل الشمسُ تختفي عن جميعِ الأرض؟
هل سجودُ الشمسِ تحت العرش يعارِضُ العِلمَ الحديثَ؟
الجواب التفصيلي
الجوابُ التفصيليّ:
حقيقةُ هذه الشبهةِ مبنيَّةٌ على عدمِ ضبطٍ للعَلاقةِ بين الوحيِ وبين العقلِ مِن جهةٍ، وبينه وبين العلمِ التجريبيِّ مِن جهةٍ أخرى.
والاستشكالُ الذي يُورِدُهُ السائلُ يتضمَّنُ الحاجةَ إلى معرفةِ المدلولِ الصحيحِ للخبَرِ الواردِ في سجودِ الشمسِ تحت العرش، وما فيه مِن إخبارٍ عن استئذانِها للهِ تعالى في حرَكتِها، وهو ما جاء في «الصحيحَيْنِ»، وغيرِهما:
«أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لِأَبِي ذَرٍّ حِينَ غَرَبَتِ الشَّمْسُ: «أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ؟»، قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ العَرْشِ، فَتَسْتَأْذِنَ فَيُؤْذَنَ لَهَا، وَيُوشِكُ أَنْ تَسْجُدَ فَلَا يُقْبَلَ مِنْهَا، وَتَسْتَأْذِنَ فَلاَ يُؤْذَنَ لَهَا، يُقَالُ لَهَا: ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا؛
فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ}
[يس: 38]»
رواه البخاري (3199)، ومسلم (159).
ويتبيَّنُ ذلك مِن وجوه:
1- عدمُ وصولِ العلمِ التجريبيِّ لكيفيَّةِ سجودِ الشمسِ تحتَ العرشِ، ليس دليلًا على نفيِ ذلك السجود:
فالوحيُ مصدرٌ مستقِلٌّ مِن مصادرِ المعرفةِ (وهو الخبَرُ الصادق)، وهو يستقِلُّ بإثباتِها، ولا يتوقَّفُ إثباتُ المعرفةِ إذا أثبَتَها الوحيُ على إخضاعِها للتجرِبة.
2- غيابُ الشمسِ غيابٌ نسبيٌّ باعتبارِ نظَرِ الناظرِ إليها:
ولا يَمنَعُ مِن استمرارِ حرَكتِها في مَسارِها، وقد كان شائعًا عند أهلِ الفلَكِ أن الشمسَ ثابتةٌ، ثم ثبَتَ عندهم حرَكتُها أيضًا، وقد جاء في القرآنِ نسبةُ الغروبِ والدلوكِ والتواري للشمسِ؛ وهي دليلٌ لحرَكتِها، ولكنَّ غروبَها إنما هو باعتبارِ حالِ الناظرِ إليها.
3- سجودُ الشمسِ تحتَ العرشِ جائزٌ عقلًا، وإن احتارَتِ العقولُ في فهمِه؛ فالشرعُ يأتي بمُحاراتِ العقول، ولا يأتي بمُحالاتِ العقول:
فإننا لا نَنْفي أن يَرِدَ في الوحيِ أمورٌ تَحَارُ فيها العقولُ، وتتعجَّبُ منها، لكنْ ننفي أن يأتيَ الوحيُ بما هو محالٌ في العقول؛ ففرقٌ بين ما كان مُحالًا عقلًا، وبين ما احتار فيه العقلُ، وسجودُ الشمسِ لا يدخُلُ في قسمِ المحالاتِ العقليَّة؛ كالجمعِ بين النقيضَيْنِ، أو ارتفاعِهما، وإنما هو مِن الأمورِ الجائزةِ عقلًا، وإذا دَلَّ الوحيُ على ثبوتِهِ، فالتسليمُ به واجبٌ.
4- كيفيَّةُ سجودِ الشمسِ ليست ككيفيَّةِ سجودِ الإنسان:
فلا يَلزَمُ منه توقُّفُ حرَكةِ الشمسِ، ولا مغادَرتُها مَسارَها التي هي عليه، ولا غيابُها عن جميعِ الأرضِ في لحظةٍ مِن اللحَظات؛ فهذه اللوازمُ مبنيَّةٌ على مقدِّمةٍ خاطئةٍ، وهي أن سجودَ الشمسِ مِثلُ سجودِ الإنسان، ولأجلِ هذه المقدِّمةِ افتُرِضت له اللوازمُ المتعلِّقةُ بالسجودِ الإنسانيّ، والحقيقةُ أن سجودَ الشمسِ واستئذانَها مِن الأمورِ الغيبيَّةِ التي لا نَعرِفُ حقيقتَها، ولا نُدرِكُ كيفيَّتَها، كما أننا لا نُدرِكُ كيفيَّةَ سجودِ الشجَرِ والحجَرِ والبهائمِ وتسبيحِها؛ كما أخبَرَ اللهُ عنها في القرآن؛ قال تعالى:
{وَلِلهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}
[الرعد: 15]
وقال تعالى:
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ}
[الحج: 18]
وقال تعالى:
{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}
[الإسراء: 44]
ومِن ثَمَّ قال بعضُ أهلِ العلمِ:
«ليس في سجودِ الشمسِ لربِّها تحتَ العرشِ ما يعُوقُها عن الدَّأَبِ في سَيْرِها، والتصرُّفِ فيما سُخِّرت له»
وقال بعضُهم:
«تسجُدُ الشمسُ وهي سائرةٌ»
كذلك فإننا لا نَعرِفُ كيفيَّةَ ذَهَابِ الشمسِ واستقرارِها الواردةَ في الوحي؛ ولهذا قال أهلُ العلمِ: «لا يُنكَرُ أن يكونَ ذلك عند محاذاتِها العرشَ في مَسيرِها، وانتظارُ الشمسِ والإذنُ لها مِن اللهِ متعلِّقٌ بإنهاءِ سجودِها، وليس بإنهاءِ حرَكتِها؛ فلا يَلزَمُ منه توقُّفُها عن الحرَكة».
غيرَ أن الحديثَ قد دَلَّ أن استئذانَ الشمسِ - وإن كان أمرًا غيبيًّا - فله أثرٌ مشاهَدٌ؛ حيثُ جاء في «صحيحِ مسلم» (159):
«فَتَرْجِعُ فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَطْلِعِهَا، ثُمَّ تَجْرِي لَا يَسْتَنْكِرُ النَّاسَ مِنْهَا شَيْئًا»؛
كما أنه سيكونُ له أثرٌ مشاهَدٌ في نهايةِ الزمان، حين تسجُدُ الشمسُ فلا يُقبَلُ منها، وتستأذِنُ فلا يُؤذَنُ لها؛ فتطلُعُ حينئذٍ مِن مَغرِبِها؛ وهذه مِن أشراطِ الساعةِ الكبرى التي يَرَاها الناسُ.
6- الدَّلالةُ اللُّغَويَّةُ لِلَفْظِ: «ذَهَابِ الشمسِ»، لا تقتضي أنها تنتقِلُ انتقالًا حسِّيًّا، ولا تدُلُّ على مغادَرتِها لمَسَارِها التي هي عليه، ولا غِيابِها عن جميعِ الأرضِ في لحظةٍ مَّا:
فيحتمِلُ أن يكونَ تعبيرًا عن بلوغِ الشمسِ مكانًا محدَّدًا تكونُ فيه محاذِيةً للعرشِ، فتسجُدُ هناك.
ويزيدُ مِن وضوحِ هذا الأمرِ: أن العرشَ أكبرُ بكثيرٍ مِن الشمسِ، ومِن السمواتِ والأرضِ جميعًا؛ يقولُ النبيُّ ﷺ: «مَا السَّمَوَاتُ السَّبْعُ مَعَ الْكُرْسِيِّ إِلَّا كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ، وَفَضْلُ الْعَرْشِ عَلَى الْكُرْسِيِّ كَفَضْلِ الْفَلَاةِ عَلَى الْحَلْقَةِ»؛ رواه ابنُ حِبَّانَ (361).
ولهذا قال أهلُ العلمِ في شرحِ حديثِ سجودِ الشمسِ: «لا يدُلُّ على أنها تَصعَدُ إلى فوقِ السمواتِ مِن جِهَتِنا حتى تسجُدَ تحت العرشِ، بل هي تغرُبُ عن أعيُنِنا، وهي مستمِرَّةٌ في فَلَكِها الذي هي فيه».
وهذا الأسلوبُ مستعمَلٌ في الخِطابِ العربيِّ؛ فإنا نقولُ لِمَن خرَجَ للصلاةِ: «إنه ذهَبَ ليقابِلَ ربَّه»، وليس معناهُ: أنه انتقَلَ إلى السماءِ ليقابِلَ اللهَ هناك؛ ومِن ذلك قولُ إبراهيمَ:
{إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ}
[الصافَّات: 99]
وهو لا يَقصِدُ أنه ذاهِبٌ إلى اللهِ في الأعلى، وإنما يَقصِدُ أنه ذاهِبٌ إلى الأرضِ التي يُعبَدُ اللهُ تعالى فيها.
مختصر الجواب
«أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لِأَبِي ذَرٍّ حِينَ غَرَبَتِ الشَّمْسُ: «أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ؟»، قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ العَرْشِ، فَتَسْتَأْذِنَ فَيُؤْذَنَ لَهَا، وَيُوشِكُ أَنْ تَسْجُدَ فَلَا يُقْبَلَ مِنْهَا
مضمونُ السؤال:
أن في بعضِ الأحاديثِ ما يسبِّبُ شكًّا لبعضِ الناسِ في صدقِ الأحاديثِ، أو صحَّةِ مصادِرِها؛ فقد جاءت أحاديثُ بسجودِ الشمسِ تحت العرشِ؛ فكيف يكونُ ذلك، مع أن العِلمَ الحديثَ يُثبِتُ استمرارَ دَوَرانِ الشمس؟
مختصَرُ الإجابة:
سجودُ الشمسِ تحت العرشِ ليس كسجودِ الإنسانِ؛ فلا يقتضي أنها تَغيبُ عن الأرضِ كلِّها، ولا أنها تخرُجُ عن مَسَارِها، ولا أنها تتوقَّفُ عن حرَكَتِها في المَجَرَّة.
وسجودُ الشمسِ مِن الغيبِ الذي جاء به الوحيُ؛ فالتصديقُ به واجبٌ، ولا يتوقَّفُ التصديقُ به على مشاهَدةِ المصدِّقِ له بالحِسِّ؛ كشأنِ سائرِ الغيوب، وإن كان مِن شأنِهِ أن يُحَسَّ؛ إذْ كلُّ ما لا يُمكِنُ أن يُعرَفُ بالحواسِّ، فهو معدومٌ، ولا وجودَ له.
خاتمة الجواب
خاتِمةُ الجواب - توصية: أكثرُ المعارِفِ البشريَّةِ ليست قطعيَّةً نهائيَّةً؛ فالتراكُميَّةُ والنسبيَّةُ تكتنِفانِ كثيرًا مِن معارفِ البشَرِ؛ فلا ينبغي الاعتراضُ بها على ما ثبَتَ مِن وحيِ اللهِ تعالى، خصوصًا في الأمرِ الغيبيِّ؛ فاللهُ تعالى وصَفَ عبادَهُ المتَّقِينَ بأنهم:
{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}
[البقرة: 3]
جعَلَنا اللهُ والقارئَ مِن أولئك المتَّقِين
مختصر الجواب
«أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لِأَبِي ذَرٍّ حِينَ غَرَبَتِ الشَّمْسُ: «أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ؟»، قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ العَرْشِ، فَتَسْتَأْذِنَ فَيُؤْذَنَ لَهَا، وَيُوشِكُ أَنْ تَسْجُدَ فَلَا يُقْبَلَ مِنْهَا
مضمونُ السؤال:
أن في بعضِ الأحاديثِ ما يسبِّبُ شكًّا لبعضِ الناسِ في صدقِ الأحاديثِ، أو صحَّةِ مصادِرِها؛ فقد جاءت أحاديثُ بسجودِ الشمسِ تحت العرشِ؛ فكيف يكونُ ذلك، مع أن العِلمَ الحديثَ يُثبِتُ استمرارَ دَوَرانِ الشمس؟
مختصَرُ الإجابة:
سجودُ الشمسِ تحت العرشِ ليس كسجودِ الإنسانِ؛ فلا يقتضي أنها تَغيبُ عن الأرضِ كلِّها، ولا أنها تخرُجُ عن مَسَارِها، ولا أنها تتوقَّفُ عن حرَكَتِها في المَجَرَّة.
وسجودُ الشمسِ مِن الغيبِ الذي جاء به الوحيُ؛ فالتصديقُ به واجبٌ، ولا يتوقَّفُ التصديقُ به على مشاهَدةِ المصدِّقِ له بالحِسِّ؛ كشأنِ سائرِ الغيوب، وإن كان مِن شأنِهِ أن يُحَسَّ؛ إذْ كلُّ ما لا يُمكِنُ أن يُعرَفُ بالحواسِّ، فهو معدومٌ، ولا وجودَ له.
الجواب التفصيلي
الجوابُ التفصيليّ:
حقيقةُ هذه الشبهةِ مبنيَّةٌ على عدمِ ضبطٍ للعَلاقةِ بين الوحيِ وبين العقلِ مِن جهةٍ، وبينه وبين العلمِ التجريبيِّ مِن جهةٍ أخرى.
والاستشكالُ الذي يُورِدُهُ السائلُ يتضمَّنُ الحاجةَ إلى معرفةِ المدلولِ الصحيحِ للخبَرِ الواردِ في سجودِ الشمسِ تحت العرش، وما فيه مِن إخبارٍ عن استئذانِها للهِ تعالى في حرَكتِها، وهو ما جاء في «الصحيحَيْنِ»، وغيرِهما:
«أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لِأَبِي ذَرٍّ حِينَ غَرَبَتِ الشَّمْسُ: «أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ؟»، قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ العَرْشِ، فَتَسْتَأْذِنَ فَيُؤْذَنَ لَهَا، وَيُوشِكُ أَنْ تَسْجُدَ فَلَا يُقْبَلَ مِنْهَا، وَتَسْتَأْذِنَ فَلاَ يُؤْذَنَ لَهَا، يُقَالُ لَهَا: ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا؛
فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ}
[يس: 38]»
رواه البخاري (3199)، ومسلم (159).
ويتبيَّنُ ذلك مِن وجوه:
1- عدمُ وصولِ العلمِ التجريبيِّ لكيفيَّةِ سجودِ الشمسِ تحتَ العرشِ، ليس دليلًا على نفيِ ذلك السجود:
فالوحيُ مصدرٌ مستقِلٌّ مِن مصادرِ المعرفةِ (وهو الخبَرُ الصادق)، وهو يستقِلُّ بإثباتِها، ولا يتوقَّفُ إثباتُ المعرفةِ إذا أثبَتَها الوحيُ على إخضاعِها للتجرِبة.
2- غيابُ الشمسِ غيابٌ نسبيٌّ باعتبارِ نظَرِ الناظرِ إليها:
ولا يَمنَعُ مِن استمرارِ حرَكتِها في مَسارِها، وقد كان شائعًا عند أهلِ الفلَكِ أن الشمسَ ثابتةٌ، ثم ثبَتَ عندهم حرَكتُها أيضًا، وقد جاء في القرآنِ نسبةُ الغروبِ والدلوكِ والتواري للشمسِ؛ وهي دليلٌ لحرَكتِها، ولكنَّ غروبَها إنما هو باعتبارِ حالِ الناظرِ إليها.
3- سجودُ الشمسِ تحتَ العرشِ جائزٌ عقلًا، وإن احتارَتِ العقولُ في فهمِه؛ فالشرعُ يأتي بمُحاراتِ العقول، ولا يأتي بمُحالاتِ العقول:
فإننا لا نَنْفي أن يَرِدَ في الوحيِ أمورٌ تَحَارُ فيها العقولُ، وتتعجَّبُ منها، لكنْ ننفي أن يأتيَ الوحيُ بما هو محالٌ في العقول؛ ففرقٌ بين ما كان مُحالًا عقلًا، وبين ما احتار فيه العقلُ، وسجودُ الشمسِ لا يدخُلُ في قسمِ المحالاتِ العقليَّة؛ كالجمعِ بين النقيضَيْنِ، أو ارتفاعِهما، وإنما هو مِن الأمورِ الجائزةِ عقلًا، وإذا دَلَّ الوحيُ على ثبوتِهِ، فالتسليمُ به واجبٌ.
4- كيفيَّةُ سجودِ الشمسِ ليست ككيفيَّةِ سجودِ الإنسان:
فلا يَلزَمُ منه توقُّفُ حرَكةِ الشمسِ، ولا مغادَرتُها مَسارَها التي هي عليه، ولا غيابُها عن جميعِ الأرضِ في لحظةٍ مِن اللحَظات؛ فهذه اللوازمُ مبنيَّةٌ على مقدِّمةٍ خاطئةٍ، وهي أن سجودَ الشمسِ مِثلُ سجودِ الإنسان، ولأجلِ هذه المقدِّمةِ افتُرِضت له اللوازمُ المتعلِّقةُ بالسجودِ الإنسانيّ، والحقيقةُ أن سجودَ الشمسِ واستئذانَها مِن الأمورِ الغيبيَّةِ التي لا نَعرِفُ حقيقتَها، ولا نُدرِكُ كيفيَّتَها، كما أننا لا نُدرِكُ كيفيَّةَ سجودِ الشجَرِ والحجَرِ والبهائمِ وتسبيحِها؛ كما أخبَرَ اللهُ عنها في القرآن؛ قال تعالى:
{وَلِلهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}
[الرعد: 15]
وقال تعالى:
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ}
[الحج: 18]
وقال تعالى:
{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}
[الإسراء: 44]
ومِن ثَمَّ قال بعضُ أهلِ العلمِ:
«ليس في سجودِ الشمسِ لربِّها تحتَ العرشِ ما يعُوقُها عن الدَّأَبِ في سَيْرِها، والتصرُّفِ فيما سُخِّرت له»
وقال بعضُهم:
«تسجُدُ الشمسُ وهي سائرةٌ»
كذلك فإننا لا نَعرِفُ كيفيَّةَ ذَهَابِ الشمسِ واستقرارِها الواردةَ في الوحي؛ ولهذا قال أهلُ العلمِ: «لا يُنكَرُ أن يكونَ ذلك عند محاذاتِها العرشَ في مَسيرِها، وانتظارُ الشمسِ والإذنُ لها مِن اللهِ متعلِّقٌ بإنهاءِ سجودِها، وليس بإنهاءِ حرَكتِها؛ فلا يَلزَمُ منه توقُّفُها عن الحرَكة».
غيرَ أن الحديثَ قد دَلَّ أن استئذانَ الشمسِ - وإن كان أمرًا غيبيًّا - فله أثرٌ مشاهَدٌ؛ حيثُ جاء في «صحيحِ مسلم» (159):
«فَتَرْجِعُ فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَطْلِعِهَا، ثُمَّ تَجْرِي لَا يَسْتَنْكِرُ النَّاسَ مِنْهَا شَيْئًا»؛
كما أنه سيكونُ له أثرٌ مشاهَدٌ في نهايةِ الزمان، حين تسجُدُ الشمسُ فلا يُقبَلُ منها، وتستأذِنُ فلا يُؤذَنُ لها؛ فتطلُعُ حينئذٍ مِن مَغرِبِها؛ وهذه مِن أشراطِ الساعةِ الكبرى التي يَرَاها الناسُ.
6- الدَّلالةُ اللُّغَويَّةُ لِلَفْظِ: «ذَهَابِ الشمسِ»، لا تقتضي أنها تنتقِلُ انتقالًا حسِّيًّا، ولا تدُلُّ على مغادَرتِها لمَسَارِها التي هي عليه، ولا غِيابِها عن جميعِ الأرضِ في لحظةٍ مَّا:
فيحتمِلُ أن يكونَ تعبيرًا عن بلوغِ الشمسِ مكانًا محدَّدًا تكونُ فيه محاذِيةً للعرشِ، فتسجُدُ هناك.
ويزيدُ مِن وضوحِ هذا الأمرِ: أن العرشَ أكبرُ بكثيرٍ مِن الشمسِ، ومِن السمواتِ والأرضِ جميعًا؛ يقولُ النبيُّ ﷺ: «مَا السَّمَوَاتُ السَّبْعُ مَعَ الْكُرْسِيِّ إِلَّا كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ، وَفَضْلُ الْعَرْشِ عَلَى الْكُرْسِيِّ كَفَضْلِ الْفَلَاةِ عَلَى الْحَلْقَةِ»؛ رواه ابنُ حِبَّانَ (361).
ولهذا قال أهلُ العلمِ في شرحِ حديثِ سجودِ الشمسِ: «لا يدُلُّ على أنها تَصعَدُ إلى فوقِ السمواتِ مِن جِهَتِنا حتى تسجُدَ تحت العرشِ، بل هي تغرُبُ عن أعيُنِنا، وهي مستمِرَّةٌ في فَلَكِها الذي هي فيه».
وهذا الأسلوبُ مستعمَلٌ في الخِطابِ العربيِّ؛ فإنا نقولُ لِمَن خرَجَ للصلاةِ: «إنه ذهَبَ ليقابِلَ ربَّه»، وليس معناهُ: أنه انتقَلَ إلى السماءِ ليقابِلَ اللهَ هناك؛ ومِن ذلك قولُ إبراهيمَ:
{إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ}
[الصافَّات: 99]
وهو لا يَقصِدُ أنه ذاهِبٌ إلى اللهِ في الأعلى، وإنما يَقصِدُ أنه ذاهِبٌ إلى الأرضِ التي يُعبَدُ اللهُ تعالى فيها.
خاتمة الجواب
خاتِمةُ الجواب - توصية: أكثرُ المعارِفِ البشريَّةِ ليست قطعيَّةً نهائيَّةً؛ فالتراكُميَّةُ والنسبيَّةُ تكتنِفانِ كثيرًا مِن معارفِ البشَرِ؛ فلا ينبغي الاعتراضُ بها على ما ثبَتَ مِن وحيِ اللهِ تعالى، خصوصًا في الأمرِ الغيبيِّ؛ فاللهُ تعالى وصَفَ عبادَهُ المتَّقِينَ بأنهم:
{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}
[البقرة: 3]
جعَلَنا اللهُ والقارئَ مِن أولئك المتَّقِين