نص السؤال
جاء في بعضِ الأحاديثِ: أن شدَّةَ الحَرِّ مِن جهنَّمَ، مع أن العِلمَ الحديثَ يفسِّرُ ذلك بأشياءَ فلَكيَّةٍ؟
المؤلف: باحثو مركز أصول
المصدر: مركز أصول
عبارات مشابهة للسؤال
حديثُ: «إِنَّ شِدَّةَ الحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ» ليس صحيحًا.
الجواب التفصيلي
الجوابُ التفصيليّ:
قبل معارَضةِ أيِّ حديثٍ نبويٍّ بأمرٍ حسِّيٍّ أو عقليٍّ، ينبغي التثبُّتُ مِن صحَّتِهِ أوَّلًا؛ لئلا يكونَ الجدلُ على حديثٍ لم تثبُتْ صحَّتُه، وبالتالي: نَسلَمُ مِن ظاهرةِ معارَضةِ الأحاديث.
ثم ينبغي التثبُّتُ مِن فهمِهِ ثانيًا؛ لئلا يكونَ الخلافُ حول مفهومٍ غيرِ مقصود؛ فيُثبِتُهُ قومٌ، ويَنْفيهِ آخَرون، ويظُنَّانِ أنهم يُثبِتون الحديثَ أو يَنْفُونه.
ثم ينبغي التثبُّتُ مِن سلامةِ الأمرِ الحسِّيِّ أو العقليِّ المستشهَدِ به ثالثًا؛ فقد يكونُ غيرَ ثابتٍ علميًّا، أو أنه خليطٌ بين الثابتِ وغيرِ الثابت، أو أنه جزءٌ مِن الحقيقة، وصحيحٌ في بعضِ الأحوالِ، لا في كلِّها.
فالتعارُضُ المشكِلُ إنما يكونُ بين نصٍّ شرعيٍّ صحيحٍ، وله مفهومٌ محدَّدٌ، وأمرٍ حسِّيٍّ أو عقليٍّ ثابتٍ، ونفسُ مفهومِهِ يعارِضُ نفسَ مفهومِ الحديث؛ هذه صورةُ التعارُضِ الحقيقيّ.
وهذه الصورةُ لم تجتمِعْ مطلَقًا في أيِّ نصٍّ قرآنيٍّ أو حديثيٍّ صحيح.
ولهذا: فالظنُّ بأن الحديثَ المذكورَ يخالِفُ كونَ الصيفِ سببُهُ موقعُ الأرضِ مِن الشمس، مَحَلُّ نظَرٍ.
وسيكونُ الجوابُ التفصيليُّ على هذه الشبهةِ مِن خلالِ هذه الوجوه:
1- الحديثُ النبويُّ لم يخصِّصْ سببَ الصيفِ بفيحِ جهنَّمَ، بل خصَّص جزءًا يسيرًا جدًّا مِن الصيفِ بذلك:
فالحديثُ نفسُهُ دليلٌ أن الصيفَ ليس سببُهُ فَيْحَ جهنَّمَ.
وأصرَحُ مِن ذلك: حديثُ أبي هُرَيرةَ رضيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ:
«اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فَقَالَتْ: يَا رَبِّ، أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا؛ فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ؛ فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ»؛
متَّفَقٌ عليه؛ رواه البخاري (537)، ومسلم (617)
قال ابنُ عبدِ البَرِّ (وهو عالِمٌ متقدِّمٌ): «وأما قولُهُ: «فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ»، فيدُلُّ على أنَّ نفَسَها في الشتاءِ غيرُ الشتاء، ونفَسَها في الصيفِ غيرُ الصيف».
فأصلُ معارَضةِ الحديثِ غيرُ صحيحة.
2- أكثَرُ المَعارِفِ البشَريَّةِ ليست قطعيَّةً نهائيَّةً:
فالذي يَطعَنُ في الأحاديثِ الصحيحةِ بعلومِهِ، كثيرًا ما يظُنُّ أن المَعارِفَ البشَريَّةَ عن الطبيعةِ تمثِّلُ المرجعيَّةَ النِّهائيَّةَ عن الكونِ وما فيه، في حينِ أن الأمرَ بخلافِ ذلك؛ فالتراكُميَّةُ والنسبيَّةُ تكتنِفانِ كثيرًا مِن مَعارفِ البشَرِ التي ترتكِزُ على وسائلَ تَخضَعُ للتجدُّدِ والتطوُّرِ اللَّذَيْنِ يُحِيلانِ ما ظُنَّ قبلُ أنه حقائقُ، إلى كونِها لا تعدُو أن تكونَ نظريَّاتٍ، أو أمرًا غيرَ ثابتٍ علميًّا، أو أنه خليطٌ بين الثابتِ وغيرِ الثابت، أو أنه جزءٌ مِن الحقيقةِ وليس كاملَ الحقيقة، أو أنه صحيحٌ في بعضِ الأحوالِ لا في كلِّها.
ودعوى أن هذا الحديثَ جاء مخالِفًا للحقيقةِ العلميَّةِ دعوى تفتقِرُ هي أيضًا إلى مستنَدٍ علميٍّ يصحِّحُها؛ ذلك أن الحرارةَ والبرودةَ ليس سببهُما - بالنظرِ إلى أسبابِهما الحسيَّةِ المشاهَدةِ - فقطْ قُرْبَ الأرضِ وبُعْدَها مِن الشمس؛ فهناك عواملُ أخرى محسوسةٌ أيضًا تتحكَّمُ في برودةِ الأرضِ وحرارتِها؛ كالاحتباسِ الحراريِّ، وغيرِهِ مِن العوامل.
3- ذِكرُ سبَبٍ لا يَمنَعُ مِن وجودٍ سببٍ آخَرَ، ويكونُ هذا مِن عالَمِ الشهادة، وذاك مِن عالَمِ الغيب؛ وكلاهما سبَبٌ حسِّيّ:
فغايةُ ما يُقالُ: «إن ما وصَلَ إليه العلمُ الحديثُ هو: إثباتُ أن الشمسَ سببٌ ظاهرٌ لحصولِ مطلَقِ الحرارةِ والبرودةِ على سطحِ الأرض، ولا يَلزَمُ مِن إثباتِ ذلك نفيُ أن تُعلَّلَ ظاهرةُ شدَّةِ البردِ والحرِّ بالسببِ الغيبيِّ المحسوسِ أيضًا الذي أَخبَرَ به المصطفى ﷺ؛ لانتفاءِ التعارُضِ بين السببَيْن».
ولهذا نظائرُ؛ فإن سببَ بكاءِ المولودِ الواردَ في حديثِ:
«مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا نَخَسَهُ الشَّيْطَانُ؛ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ نَخْسَةِ الشَّيْطَانِ، إِلَّا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ»؛
رواه البخاري (3431)، ومسلم (2366)
-: لا يَمنَعُ مِن وجودِ سببٍ غيبيٍّ حسِّيٍّ آخَرَ له.
كما أن الإيمانَ بأن هناك ملائكةً موكَّلينَ بأمرِ العالَمِ - كالملَكِ الموكَّلِ بالرِّيحِ، وميكائيلَ الموكَّلِ بالقَطْرِ، وغيرِهما - لا يَمنَعُ الأسبابَ الأخرى الحسِّيَّةَ للمطَرِ والنباتِ، وسائرِ وظائفِ الملائكةِ الكونيَّة.
والغيبُ والشهادةُ كلاهما محسوسٌ، أي: يُمكِنُ الإحساسُ به؛ فليس الفرقُ بين الغيبِ والشهادةِ هو الفرقَ بين المعقولِ والمحسوسِ؛ كما يزعُمُ أهلُ الكلامِ والفلسَفة، بل كلاهما معقولٌ مِن محسوسٌ؛ لكنْ أحدُهما شاهَدْناه (وهو عالَمُ الشهادة)، والآخَرُ غاب عن مشاهَدتِنا (وهو عالَمُ الغيب)، وعدَمُ العلمِ ليس علمًا بالعدَم؛ كما يقولُ ابنُ تيميَّة.
مختصر الجواب
مضمونُ السؤال:
حقيقةُ هذه الشبهةِ: التشكيكُ في السنَّةِ؛ لما ورَدَ في حديثِ أبي ذرٍّ رضيَ اللهُ عنه، مرفوعًا:
«إِنَّ شِدَّةَ الحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَإِذَا اشْتَدَّ الحَرُّ، فَأَبرِدُوا بِالصَّلَاةِ»؛
رواه البخاري (535)، ومسلم (616)
و«فَيْحُ جَهَنَّمَ»: استِعارُها واشتِدادُها وزفيرُها.
ففيه تفسيرٌ لظاهرةٍ طبيعيَّةٍ بأمرٍ مخالِفٍ للحسِّ - مِن وجهةِ نظَرِ السائلِ - فإن طلَبةَ المدارسِ في عصرِنا يدرُسون في الجُغْرافيا أسبابَ تغيُّرِ الفصولِ، وظهورِ الصيفِ والشتاءِ، والحَرِّ والبَرْدِ، وهي تقومُ على سُنَنٍ كونيَّة، وأسبابٍ معلومةٍ للدارِسين؛ وهي أن اشتدادَ الحَرِّ سببُهُ موقعُ الأرضِ مِن الشمس.
مختصَرُ الإجابة:
إن الحديثَ لم يقُلْ: «إن الصيفَ هو فقطْ مِن فَيْحِ جهنَّمَ»، بل صرَّح في هذا الحديثِ وغيرِهِ: أن جزءًا يسيرًا مِن الصيفِ هو مِن فَيْحِ جهنَّم.
ثم إن وجودَ سببٍ حسِّيٍّ نَعلَمُهُ لشدَّةِ الحَرِّ - كموقعِ الأرضِ - لا يُنافي وجودَ سببٍ آخَرَ حسِّيٍّ أيضًا لا نَعلَمُه، وإن كان غيبيًّا؛ فعدمُ العلمِ ليس علمًا بالعدم، والغيبُ والشهادةُ كلاهما محسوسٌ، أي: يُمكِنُ الإحساسُ به؛ فليس الفرقُ بين الغيبِ والشهادةِ هو الفرقَ بين المعقولِ والمحسوسِ؛ كما يزعُمُ أهلُ الكلامِ والفلسَفة، بل كلاهما معقولٌ مِن محسوسٌ؛ لكنْ أحدُهما شاهَدْناه (وهو عالَمُ الشهادة)، والآخَرُ غاب عن مشاهَدتِنا (وهو عالَمُ الغيب)، وعدَمُ العلمِ ليس علمًا بالعدَم؛ كما يقولُ ابنُ تيميَّة.
كما أن أكثَرَ المَعارِفِ البشَريَّةِ ليست قطعيَّةً نهائيَّةً؛ فكثيرًا ما يظُنُّ أن المَعارِفَ البشَريَّةَ عن الطبيعةِ تمثِّلُ المرجعيَّةَ النِّهائيَّةَ عن الكونِ وما فيه، في حينِ أن الأمرَ بخلافِ ذلك؛ فالتراكُميَّةُ والنسبيَّةُ تكتنِفانِ كثيرًا مِن مَعارفِ البشَرِ التي ترتكِزُ على وسائلَ تَخضَعُ للتجدُّدِ والتطوُّرِ اللَّذَيْنِ يُحِيلانِ ما ظُنَّ قبلُ أنه حقائقُ، إلى كونِها لا تعدُو أن تكونَ نظريَّاتٍ، أو أمرًا غيرَ ثابتٍ علميًّا، أو أنه خليطٌ بين الثابتِ وغيرِ الثابت، أو أنه جزءٌ مِن الحقيقةِ وليس كاملَ الحقيقة، أو أنه صحيحٌ في بعضِ الأحوالِ لا في كلِّها.
ولذلك فإن دعوى أن هذا الحديثَ جاء مخالِفًا للحقيقةِ العلميَّةِ دعوى تفتقِرُ هي أيضًا إلى مستنَدٍ علميٍّ يصحِّحُها؛ ذلك أن الحرارةَ والبرودةَ ليس سببهُما فقطْ قُرْبَ الأرضِ وبُعْدَها مِن الشمس؛ فهناك عواملُ أخرى محسوسةٌ أيضًا تتحكَّمُ في برودةِ الأرضِ وحرارتِها؛ كالاحتباسِ الحراريِّ، وغيرِهِ مِن العوامل.
خاتمة الجواب
خاتِمةُ الجواب - توصية: فتبيَّن مما سبَقَ: صحَّةُ الحديث، وأن له مفهومًا لا يعارِضُهُ العلمُ الحديث، بل إن المتأمِّلَ في الحديثِ يجدُ فيه ربطًا للغيبِ بالشهادةِ، وللحوادثِ الكونيَّةِ بالأمورِ الأخرويَّة، وكلاهما مِن الأمورِ التى تُدرَكُ بالحسِّ؛ ممَّا يُوقِظُ في قلبِ المسلِمِ الخشيةَ والرهبةَ، ويَفتَحُ له بابًا للتذكُّرِ والتفكُّرِ والاعتبار.
مختصر الجواب
مضمونُ السؤال:
حقيقةُ هذه الشبهةِ: التشكيكُ في السنَّةِ؛ لما ورَدَ في حديثِ أبي ذرٍّ رضيَ اللهُ عنه، مرفوعًا:
«إِنَّ شِدَّةَ الحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَإِذَا اشْتَدَّ الحَرُّ، فَأَبرِدُوا بِالصَّلَاةِ»؛
رواه البخاري (535)، ومسلم (616)
و«فَيْحُ جَهَنَّمَ»: استِعارُها واشتِدادُها وزفيرُها.
ففيه تفسيرٌ لظاهرةٍ طبيعيَّةٍ بأمرٍ مخالِفٍ للحسِّ - مِن وجهةِ نظَرِ السائلِ - فإن طلَبةَ المدارسِ في عصرِنا يدرُسون في الجُغْرافيا أسبابَ تغيُّرِ الفصولِ، وظهورِ الصيفِ والشتاءِ، والحَرِّ والبَرْدِ، وهي تقومُ على سُنَنٍ كونيَّة، وأسبابٍ معلومةٍ للدارِسين؛ وهي أن اشتدادَ الحَرِّ سببُهُ موقعُ الأرضِ مِن الشمس.
مختصَرُ الإجابة:
إن الحديثَ لم يقُلْ: «إن الصيفَ هو فقطْ مِن فَيْحِ جهنَّمَ»، بل صرَّح في هذا الحديثِ وغيرِهِ: أن جزءًا يسيرًا مِن الصيفِ هو مِن فَيْحِ جهنَّم.
ثم إن وجودَ سببٍ حسِّيٍّ نَعلَمُهُ لشدَّةِ الحَرِّ - كموقعِ الأرضِ - لا يُنافي وجودَ سببٍ آخَرَ حسِّيٍّ أيضًا لا نَعلَمُه، وإن كان غيبيًّا؛ فعدمُ العلمِ ليس علمًا بالعدم، والغيبُ والشهادةُ كلاهما محسوسٌ، أي: يُمكِنُ الإحساسُ به؛ فليس الفرقُ بين الغيبِ والشهادةِ هو الفرقَ بين المعقولِ والمحسوسِ؛ كما يزعُمُ أهلُ الكلامِ والفلسَفة، بل كلاهما معقولٌ مِن محسوسٌ؛ لكنْ أحدُهما شاهَدْناه (وهو عالَمُ الشهادة)، والآخَرُ غاب عن مشاهَدتِنا (وهو عالَمُ الغيب)، وعدَمُ العلمِ ليس علمًا بالعدَم؛ كما يقولُ ابنُ تيميَّة.
كما أن أكثَرَ المَعارِفِ البشَريَّةِ ليست قطعيَّةً نهائيَّةً؛ فكثيرًا ما يظُنُّ أن المَعارِفَ البشَريَّةَ عن الطبيعةِ تمثِّلُ المرجعيَّةَ النِّهائيَّةَ عن الكونِ وما فيه، في حينِ أن الأمرَ بخلافِ ذلك؛ فالتراكُميَّةُ والنسبيَّةُ تكتنِفانِ كثيرًا مِن مَعارفِ البشَرِ التي ترتكِزُ على وسائلَ تَخضَعُ للتجدُّدِ والتطوُّرِ اللَّذَيْنِ يُحِيلانِ ما ظُنَّ قبلُ أنه حقائقُ، إلى كونِها لا تعدُو أن تكونَ نظريَّاتٍ، أو أمرًا غيرَ ثابتٍ علميًّا، أو أنه خليطٌ بين الثابتِ وغيرِ الثابت، أو أنه جزءٌ مِن الحقيقةِ وليس كاملَ الحقيقة، أو أنه صحيحٌ في بعضِ الأحوالِ لا في كلِّها.
ولذلك فإن دعوى أن هذا الحديثَ جاء مخالِفًا للحقيقةِ العلميَّةِ دعوى تفتقِرُ هي أيضًا إلى مستنَدٍ علميٍّ يصحِّحُها؛ ذلك أن الحرارةَ والبرودةَ ليس سببهُما فقطْ قُرْبَ الأرضِ وبُعْدَها مِن الشمس؛ فهناك عواملُ أخرى محسوسةٌ أيضًا تتحكَّمُ في برودةِ الأرضِ وحرارتِها؛ كالاحتباسِ الحراريِّ، وغيرِهِ مِن العوامل.
الجواب التفصيلي
الجوابُ التفصيليّ:
قبل معارَضةِ أيِّ حديثٍ نبويٍّ بأمرٍ حسِّيٍّ أو عقليٍّ، ينبغي التثبُّتُ مِن صحَّتِهِ أوَّلًا؛ لئلا يكونَ الجدلُ على حديثٍ لم تثبُتْ صحَّتُه، وبالتالي: نَسلَمُ مِن ظاهرةِ معارَضةِ الأحاديث.
ثم ينبغي التثبُّتُ مِن فهمِهِ ثانيًا؛ لئلا يكونَ الخلافُ حول مفهومٍ غيرِ مقصود؛ فيُثبِتُهُ قومٌ، ويَنْفيهِ آخَرون، ويظُنَّانِ أنهم يُثبِتون الحديثَ أو يَنْفُونه.
ثم ينبغي التثبُّتُ مِن سلامةِ الأمرِ الحسِّيِّ أو العقليِّ المستشهَدِ به ثالثًا؛ فقد يكونُ غيرَ ثابتٍ علميًّا، أو أنه خليطٌ بين الثابتِ وغيرِ الثابت، أو أنه جزءٌ مِن الحقيقة، وصحيحٌ في بعضِ الأحوالِ، لا في كلِّها.
فالتعارُضُ المشكِلُ إنما يكونُ بين نصٍّ شرعيٍّ صحيحٍ، وله مفهومٌ محدَّدٌ، وأمرٍ حسِّيٍّ أو عقليٍّ ثابتٍ، ونفسُ مفهومِهِ يعارِضُ نفسَ مفهومِ الحديث؛ هذه صورةُ التعارُضِ الحقيقيّ.
وهذه الصورةُ لم تجتمِعْ مطلَقًا في أيِّ نصٍّ قرآنيٍّ أو حديثيٍّ صحيح.
ولهذا: فالظنُّ بأن الحديثَ المذكورَ يخالِفُ كونَ الصيفِ سببُهُ موقعُ الأرضِ مِن الشمس، مَحَلُّ نظَرٍ.
وسيكونُ الجوابُ التفصيليُّ على هذه الشبهةِ مِن خلالِ هذه الوجوه:
1- الحديثُ النبويُّ لم يخصِّصْ سببَ الصيفِ بفيحِ جهنَّمَ، بل خصَّص جزءًا يسيرًا جدًّا مِن الصيفِ بذلك:
فالحديثُ نفسُهُ دليلٌ أن الصيفَ ليس سببُهُ فَيْحَ جهنَّمَ.
وأصرَحُ مِن ذلك: حديثُ أبي هُرَيرةَ رضيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ:
«اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فَقَالَتْ: يَا رَبِّ، أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا؛ فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ؛ فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ»؛
متَّفَقٌ عليه؛ رواه البخاري (537)، ومسلم (617)
قال ابنُ عبدِ البَرِّ (وهو عالِمٌ متقدِّمٌ): «وأما قولُهُ: «فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ»، فيدُلُّ على أنَّ نفَسَها في الشتاءِ غيرُ الشتاء، ونفَسَها في الصيفِ غيرُ الصيف».
فأصلُ معارَضةِ الحديثِ غيرُ صحيحة.
2- أكثَرُ المَعارِفِ البشَريَّةِ ليست قطعيَّةً نهائيَّةً:
فالذي يَطعَنُ في الأحاديثِ الصحيحةِ بعلومِهِ، كثيرًا ما يظُنُّ أن المَعارِفَ البشَريَّةَ عن الطبيعةِ تمثِّلُ المرجعيَّةَ النِّهائيَّةَ عن الكونِ وما فيه، في حينِ أن الأمرَ بخلافِ ذلك؛ فالتراكُميَّةُ والنسبيَّةُ تكتنِفانِ كثيرًا مِن مَعارفِ البشَرِ التي ترتكِزُ على وسائلَ تَخضَعُ للتجدُّدِ والتطوُّرِ اللَّذَيْنِ يُحِيلانِ ما ظُنَّ قبلُ أنه حقائقُ، إلى كونِها لا تعدُو أن تكونَ نظريَّاتٍ، أو أمرًا غيرَ ثابتٍ علميًّا، أو أنه خليطٌ بين الثابتِ وغيرِ الثابت، أو أنه جزءٌ مِن الحقيقةِ وليس كاملَ الحقيقة، أو أنه صحيحٌ في بعضِ الأحوالِ لا في كلِّها.
ودعوى أن هذا الحديثَ جاء مخالِفًا للحقيقةِ العلميَّةِ دعوى تفتقِرُ هي أيضًا إلى مستنَدٍ علميٍّ يصحِّحُها؛ ذلك أن الحرارةَ والبرودةَ ليس سببهُما - بالنظرِ إلى أسبابِهما الحسيَّةِ المشاهَدةِ - فقطْ قُرْبَ الأرضِ وبُعْدَها مِن الشمس؛ فهناك عواملُ أخرى محسوسةٌ أيضًا تتحكَّمُ في برودةِ الأرضِ وحرارتِها؛ كالاحتباسِ الحراريِّ، وغيرِهِ مِن العوامل.
3- ذِكرُ سبَبٍ لا يَمنَعُ مِن وجودٍ سببٍ آخَرَ، ويكونُ هذا مِن عالَمِ الشهادة، وذاك مِن عالَمِ الغيب؛ وكلاهما سبَبٌ حسِّيّ:
فغايةُ ما يُقالُ: «إن ما وصَلَ إليه العلمُ الحديثُ هو: إثباتُ أن الشمسَ سببٌ ظاهرٌ لحصولِ مطلَقِ الحرارةِ والبرودةِ على سطحِ الأرض، ولا يَلزَمُ مِن إثباتِ ذلك نفيُ أن تُعلَّلَ ظاهرةُ شدَّةِ البردِ والحرِّ بالسببِ الغيبيِّ المحسوسِ أيضًا الذي أَخبَرَ به المصطفى ﷺ؛ لانتفاءِ التعارُضِ بين السببَيْن».
ولهذا نظائرُ؛ فإن سببَ بكاءِ المولودِ الواردَ في حديثِ:
«مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا نَخَسَهُ الشَّيْطَانُ؛ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ نَخْسَةِ الشَّيْطَانِ، إِلَّا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ»؛
رواه البخاري (3431)، ومسلم (2366)
-: لا يَمنَعُ مِن وجودِ سببٍ غيبيٍّ حسِّيٍّ آخَرَ له.
كما أن الإيمانَ بأن هناك ملائكةً موكَّلينَ بأمرِ العالَمِ - كالملَكِ الموكَّلِ بالرِّيحِ، وميكائيلَ الموكَّلِ بالقَطْرِ، وغيرِهما - لا يَمنَعُ الأسبابَ الأخرى الحسِّيَّةَ للمطَرِ والنباتِ، وسائرِ وظائفِ الملائكةِ الكونيَّة.
والغيبُ والشهادةُ كلاهما محسوسٌ، أي: يُمكِنُ الإحساسُ به؛ فليس الفرقُ بين الغيبِ والشهادةِ هو الفرقَ بين المعقولِ والمحسوسِ؛ كما يزعُمُ أهلُ الكلامِ والفلسَفة، بل كلاهما معقولٌ مِن محسوسٌ؛ لكنْ أحدُهما شاهَدْناه (وهو عالَمُ الشهادة)، والآخَرُ غاب عن مشاهَدتِنا (وهو عالَمُ الغيب)، وعدَمُ العلمِ ليس علمًا بالعدَم؛ كما يقولُ ابنُ تيميَّة.
خاتمة الجواب
خاتِمةُ الجواب - توصية: فتبيَّن مما سبَقَ: صحَّةُ الحديث، وأن له مفهومًا لا يعارِضُهُ العلمُ الحديث، بل إن المتأمِّلَ في الحديثِ يجدُ فيه ربطًا للغيبِ بالشهادةِ، وللحوادثِ الكونيَّةِ بالأمورِ الأخرويَّة، وكلاهما مِن الأمورِ التى تُدرَكُ بالحسِّ؛ ممَّا يُوقِظُ في قلبِ المسلِمِ الخشيةَ والرهبةَ، ويَفتَحُ له بابًا للتذكُّرِ والتفكُّرِ والاعتبار.