نص السؤال
تغيُّرُ أسلوبِ القرآنِ المدَنيِّ عن القرآنِ المكِّيِّ مِن الشدَّةِ إلى اللِّينِ، يدُلُّ على تأثُّرِهِ بالبيئة؛
وهذا يدُلُّ على أنه مِن فعلِ البشَر.
المؤلف: باحثو مركز أصول
المصدر: مركز أصول
عبارات مشابهة للسؤال
هل تأثَّر أسلوبُ القرآنِ بالبيئةِ التي نزَلَ فيها؟
الجواب التفصيلي
إن هذا التقريرَ ليس صحيحًا مِن جهةٍ، ولا هو لازمًا لهذه النتيجةِ لو صَحَّ مِن جهةٍ أخرى. فتغيُّرُ أسلوبِ القرآنِ المدَنيِّ عن القرآنِ المكِّيِّ، يُمكِنُ حملُهُ على محاملَ كثيرةٍ حسَنةٍ عند غيرِ المتحامِلِ؛ ومع هذا فإن نسبةَ التغيُّرِ المذكورةَ مسألةٌ نسبيَّةٌ لا كلِّيَّةٌ؛ فليست بمؤثِّرةٍ. ونذكُرُ هنا بعضَ النقاطِ التي تجلِّي ذلك فيما يلي: أوَّلًا: أسلوبَا اللِّينِ والشدَّةِ موجودانِ في السُّوَرِ المكِّيَّةِ والمدَنيَّة: ومِن الشواهدِ التي نسوقُها لإثباتِ تنوُّعِ القرآنِ، بقسمَيْهِ المكِّيِّ والمدَنيِّ، بين اللِّينِ والشدَّةِ؛ رعايةً لحالِ المخاطَبين -: ما يلي: ١- نجدُ الشدَّةَ في القرآنِ المدَنيِّ؛ كما في قولِهِ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278- 2٧٩] ، وقولِهِ تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: ٢٤]. 2- كما نجدُ اللِّينَ في القسمِ المكِّيِّ مِن القرآنِ؛ كما في قولِهِ عزَّ وجلَّ: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ * لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 87- 88] ، وقولِهِ تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]. وغيرِ ذلك مِن الآياتِ التي تُثبِتُ صِدقَ ما نقولُ به، والذي يخالِفُ تمامًا ما جاء في السؤالِ؛ مِن اقتصارِ القسمِ المكِّيِّ على الشدَّة، واقتصارِ القسمِ المدَنيِّ على اللِّين. فمَن يَقرَأِ القرآنَ بتأمُّلٍ، يجدْ أن القرآنَ كلَّه قام على رعايةِ حالِ المخاطَبين: فتارَةً: يخاطِبُهم بالترغيب. وتارَةً: يخاطِبُهم بالترهيب. تبَعًا لِمَا يقتضيهِ حالُ المخاطَبِين؛ سواءٌ منهم مكِّيُّهم ومدَنيُّهم؛ بدليلِ أنك تجدُ بين ثنايا السُّوَرِ المكِّيَّةِ والمدَنِيَّةِ ما هو وعدٌ ووعيد، وتسامُحٌ وتشديد، وترغيبٌ وترهيب؛ كما سبَقَ لك في الأمثلة، والشواهدُ على غيرِها كثيرةٌ. وإذا لُوحِظَ أن أهلَ مكَّةَ كَثُرَ خطابُهم بالشدَّةِ والعنفِ، فذلك لِمَا مرَدوا عليه مِن أذَى الرسولِ ^ وأصحابِه، والكيدِ لهم، حتى أخرَجُوهم مِن أوطانِهم، ولم يَكْتفوا بذلك، بل أرسَلوا إليهم الأذى في مُهاجَرِهم. وكان القرآنُ في حَمْلتِهِ عليهم وعلى أمثالِهم بالقولِ بعيدًا عن كلِّ معاني السِّبابِ والإقذاع، متذرِّعًا بالحِكْمةِ والأدَبِ الكاملِ في الإرشادِ والإقناع، حاثًّا على الصبرِ والعفوِ والإحسان؛ حتى إن اللهَ عزَّ وجلَّ لَيخاطِبُ رسولَهُ ^ في سورةِ الأنعامِ المكِّيَّةِ بقولِهِ: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ * وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ * إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [الأنعام: 34- 36]. على أننا نلاحِظُ في آفاقِ الآياتِ والسُّوَرِ المكِّيَّةِ ظاهرةً باهرةً: وهي أن هذه الآياتِ والسُّوَرَ خلَتْ خُلُوًّا تامًّا مِن تشريعِ القتالِ والجهادِ والمخاشَنةِ؛ كما خلَتْ أيامُهُ في مكَّةَ على طولِها مِن مقاتَلةِ القومِ بمِثلِ ما يأتُون مِن التنكيلِ والمصاوَلة، فلم يُسمَعْ للمسلِمين فيها صَلصَلةٌ لسيفٍ، ولا قَعقَعةٌ لسلاحٍ، ولا زَحْفٌ على عدُوٍّ، إنما هو الصبرُ والعفوُ والمجامَلةُ والمحاسَنةُ، بالرغمِ مِن إيغالِ الأعداءِ في أذاهم، ولَجاجِهم في عُتُوِّهم وأذاهم؛ سبًّا، وطعنًا، وقتلًا، ونهبًا، ومقاطَعةً، ومهاتَرةً، ومصاوَلةً، ومكابَرةً. ثانيًا: أن الكلامَ على شيءٍ مِن بلاغةِ القرآنِ، أو أسلوبِهِ، أو تغايُرِ أساليبِهِ، أو غيرِ ذلك مما يرادُ به إسقاطُ القرآنِ ونسبتُهُ إلى بشَرٍ - لا يُمكِنُ أن يفُوتَ كفَّارَ العرَبِ، وكفَّارَ قُريشٍ خصوصًا - خاصَّةً أنهم كانوا حريصِين على إيجادِ شيءٍ يدُلُّ على ذلك - خاصَّةً مع تحدِّيهم أن يأتوا ولو بسورةٍ مِن مثلِه - وهم أساطينُ اللغةِ وأربابُها؛ فلم يَجِدوا إلى ذلك سبيلًا: والتاريخُ شاهدُ عَدْلٍ: بأن قُريشًا كانت في مركزِ الزَّعَامةِ بين جميعِ قبائلِ العرَب؛ فكانوا يصدُرون عن رأيِها، ويَرجِعون إلى حُكمِها، ويأخُذون عنها، ويَركَبون ظهورَ الإبلِ إليها، ويَنزِلون على قولِها فيما يَعْلو ويَنزِل؛ مِن منظومٍ ومنثور، ويُذعِنون لها بالسَّبْقِ في مِضمارِ الفصاحةِ والبلاغة، والذكاءِ والألمعيَّة، والشرَفِ والنُّبْل. كما كانوا أحرَصَ الناسِ على إحراجِ محمَّدٍ ^، ودَحْضِ حجَّتِه، ونقضِ دِينِه، والقضاءِ على الإسلامِ في مَهْدِه، ولكنَّ سَجِيَّتَهم لم تَسمَحْ بهذا القولِ في القسمِ المكِّيِّ مِن القرآن. ختامًا: نَعلَمُ بعد كلِّ هذا: أن القرآنَ كان له سلطانٌ على نفوسِهم إلى حدٍّ خارِقٍ مُدهِشٍ يقُودُهم بقوَّتِهِ إلى الإسلام، ويَدفَعُ المعانِدَ منهم إذا استمَعَ إليه: أن يسلِّمَ لبلاغتِه، ويَهتزَّ لفصاحتِه، وأن يأخُذَ نَفْسَهُ بالتشاغُلِ عنه؛ مخافةَ أن يؤمِنَ عن طريقِ تأثُّرِهِ بسماعِه. |
مختصر الجواب
احتوى القرآنُ المكِّيُّ والمدَنيُّ على أسلوبَيِ اللِّينِ والشدَّةِ معًا؛ حيثُ نجدُ الشدَّةَ في القرآنِ المدَنيِّ، واللِّينَ في القرآنِ المكِّيِّ؛ رعايةً لحالِ المخاطَبين؛ فمَن يَقرَأِ القرآنَ بتأمُّلٍ،
يجدْ أن القرآنَ كلَّه قام على رعايةِ حالِ المخاطَبين؛ فتارَةً: يخاطِبُهم بالترغيب، وتارَةً: يخاطِبُهم بالترهيب؛ تبَعًا لِمَا يقتضيهِ حالُ المخاطَبِين؛
سواءٌ منهم مكِّيُّهم ومدَنيُّهم؛ ولهذا نجدُ أنه لم يقل أحدٌ مِن كفَّارِ قُريشٍ أو غيرِهم بهذا القولِ المذكورِ في السؤال، مع إحاطتِهِمُ التامَّةِ باللغةِ،
وحرصِهِمُ الشديدِ على إيجادِ أيِّ خَلَلٍ في القرآنِ الكريم؛ خاصَّةً مع تحدِّيهم أن يأتوا ولو بسورةٍ مِن مثلِه.
مختصر الجواب
احتوى القرآنُ المكِّيُّ والمدَنيُّ على أسلوبَيِ اللِّينِ والشدَّةِ معًا؛ حيثُ نجدُ الشدَّةَ في القرآنِ المدَنيِّ، واللِّينَ في القرآنِ المكِّيِّ؛ رعايةً لحالِ المخاطَبين؛ فمَن يَقرَأِ القرآنَ بتأمُّلٍ،
يجدْ أن القرآنَ كلَّه قام على رعايةِ حالِ المخاطَبين؛ فتارَةً: يخاطِبُهم بالترغيب، وتارَةً: يخاطِبُهم بالترهيب؛ تبَعًا لِمَا يقتضيهِ حالُ المخاطَبِين؛
سواءٌ منهم مكِّيُّهم ومدَنيُّهم؛ ولهذا نجدُ أنه لم يقل أحدٌ مِن كفَّارِ قُريشٍ أو غيرِهم بهذا القولِ المذكورِ في السؤال، مع إحاطتِهِمُ التامَّةِ باللغةِ،
وحرصِهِمُ الشديدِ على إيجادِ أيِّ خَلَلٍ في القرآنِ الكريم؛ خاصَّةً مع تحدِّيهم أن يأتوا ولو بسورةٍ مِن مثلِه.
الجواب التفصيلي
إن هذا التقريرَ ليس صحيحًا مِن جهةٍ، ولا هو لازمًا لهذه النتيجةِ لو صَحَّ مِن جهةٍ أخرى. فتغيُّرُ أسلوبِ القرآنِ المدَنيِّ عن القرآنِ المكِّيِّ، يُمكِنُ حملُهُ على محاملَ كثيرةٍ حسَنةٍ عند غيرِ المتحامِلِ؛ ومع هذا فإن نسبةَ التغيُّرِ المذكورةَ مسألةٌ نسبيَّةٌ لا كلِّيَّةٌ؛ فليست بمؤثِّرةٍ. ونذكُرُ هنا بعضَ النقاطِ التي تجلِّي ذلك فيما يلي: أوَّلًا: أسلوبَا اللِّينِ والشدَّةِ موجودانِ في السُّوَرِ المكِّيَّةِ والمدَنيَّة: ومِن الشواهدِ التي نسوقُها لإثباتِ تنوُّعِ القرآنِ، بقسمَيْهِ المكِّيِّ والمدَنيِّ، بين اللِّينِ والشدَّةِ؛ رعايةً لحالِ المخاطَبين -: ما يلي: ١- نجدُ الشدَّةَ في القرآنِ المدَنيِّ؛ كما في قولِهِ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278- 2٧٩] ، وقولِهِ تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: ٢٤]. 2- كما نجدُ اللِّينَ في القسمِ المكِّيِّ مِن القرآنِ؛ كما في قولِهِ عزَّ وجلَّ: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ * لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 87- 88] ، وقولِهِ تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]. وغيرِ ذلك مِن الآياتِ التي تُثبِتُ صِدقَ ما نقولُ به، والذي يخالِفُ تمامًا ما جاء في السؤالِ؛ مِن اقتصارِ القسمِ المكِّيِّ على الشدَّة، واقتصارِ القسمِ المدَنيِّ على اللِّين. فمَن يَقرَأِ القرآنَ بتأمُّلٍ، يجدْ أن القرآنَ كلَّه قام على رعايةِ حالِ المخاطَبين: فتارَةً: يخاطِبُهم بالترغيب. وتارَةً: يخاطِبُهم بالترهيب. تبَعًا لِمَا يقتضيهِ حالُ المخاطَبِين؛ سواءٌ منهم مكِّيُّهم ومدَنيُّهم؛ بدليلِ أنك تجدُ بين ثنايا السُّوَرِ المكِّيَّةِ والمدَنِيَّةِ ما هو وعدٌ ووعيد، وتسامُحٌ وتشديد، وترغيبٌ وترهيب؛ كما سبَقَ لك في الأمثلة، والشواهدُ على غيرِها كثيرةٌ. وإذا لُوحِظَ أن أهلَ مكَّةَ كَثُرَ خطابُهم بالشدَّةِ والعنفِ، فذلك لِمَا مرَدوا عليه مِن أذَى الرسولِ ^ وأصحابِه، والكيدِ لهم، حتى أخرَجُوهم مِن أوطانِهم، ولم يَكْتفوا بذلك، بل أرسَلوا إليهم الأذى في مُهاجَرِهم. وكان القرآنُ في حَمْلتِهِ عليهم وعلى أمثالِهم بالقولِ بعيدًا عن كلِّ معاني السِّبابِ والإقذاع، متذرِّعًا بالحِكْمةِ والأدَبِ الكاملِ في الإرشادِ والإقناع، حاثًّا على الصبرِ والعفوِ والإحسان؛ حتى إن اللهَ عزَّ وجلَّ لَيخاطِبُ رسولَهُ ^ في سورةِ الأنعامِ المكِّيَّةِ بقولِهِ: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ * وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ * إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [الأنعام: 34- 36]. على أننا نلاحِظُ في آفاقِ الآياتِ والسُّوَرِ المكِّيَّةِ ظاهرةً باهرةً: وهي أن هذه الآياتِ والسُّوَرَ خلَتْ خُلُوًّا تامًّا مِن تشريعِ القتالِ والجهادِ والمخاشَنةِ؛ كما خلَتْ أيامُهُ في مكَّةَ على طولِها مِن مقاتَلةِ القومِ بمِثلِ ما يأتُون مِن التنكيلِ والمصاوَلة، فلم يُسمَعْ للمسلِمين فيها صَلصَلةٌ لسيفٍ، ولا قَعقَعةٌ لسلاحٍ، ولا زَحْفٌ على عدُوٍّ، إنما هو الصبرُ والعفوُ والمجامَلةُ والمحاسَنةُ، بالرغمِ مِن إيغالِ الأعداءِ في أذاهم، ولَجاجِهم في عُتُوِّهم وأذاهم؛ سبًّا، وطعنًا، وقتلًا، ونهبًا، ومقاطَعةً، ومهاتَرةً، ومصاوَلةً، ومكابَرةً. ثانيًا: أن الكلامَ على شيءٍ مِن بلاغةِ القرآنِ، أو أسلوبِهِ، أو تغايُرِ أساليبِهِ، أو غيرِ ذلك مما يرادُ به إسقاطُ القرآنِ ونسبتُهُ إلى بشَرٍ - لا يُمكِنُ أن يفُوتَ كفَّارَ العرَبِ، وكفَّارَ قُريشٍ خصوصًا - خاصَّةً أنهم كانوا حريصِين على إيجادِ شيءٍ يدُلُّ على ذلك - خاصَّةً مع تحدِّيهم أن يأتوا ولو بسورةٍ مِن مثلِه - وهم أساطينُ اللغةِ وأربابُها؛ فلم يَجِدوا إلى ذلك سبيلًا: والتاريخُ شاهدُ عَدْلٍ: بأن قُريشًا كانت في مركزِ الزَّعَامةِ بين جميعِ قبائلِ العرَب؛ فكانوا يصدُرون عن رأيِها، ويَرجِعون إلى حُكمِها، ويأخُذون عنها، ويَركَبون ظهورَ الإبلِ إليها، ويَنزِلون على قولِها فيما يَعْلو ويَنزِل؛ مِن منظومٍ ومنثور، ويُذعِنون لها بالسَّبْقِ في مِضمارِ الفصاحةِ والبلاغة، والذكاءِ والألمعيَّة، والشرَفِ والنُّبْل. كما كانوا أحرَصَ الناسِ على إحراجِ محمَّدٍ ^، ودَحْضِ حجَّتِه، ونقضِ دِينِه، والقضاءِ على الإسلامِ في مَهْدِه، ولكنَّ سَجِيَّتَهم لم تَسمَحْ بهذا القولِ في القسمِ المكِّيِّ مِن القرآن. ختامًا: نَعلَمُ بعد كلِّ هذا: أن القرآنَ كان له سلطانٌ على نفوسِهم إلى حدٍّ خارِقٍ مُدهِشٍ يقُودُهم بقوَّتِهِ إلى الإسلام، ويَدفَعُ المعانِدَ منهم إذا استمَعَ إليه: أن يسلِّمَ لبلاغتِه، ويَهتزَّ لفصاحتِه، وأن يأخُذَ نَفْسَهُ بالتشاغُلِ عنه؛ مخافةَ أن يؤمِنَ عن طريقِ تأثُّرِهِ بسماعِه. |